السلاسل العلميةسلسلة أدلّة الأحكام

مبحث الإجماع ٣ : الدَّرْسُ الثّامن: الْجُزْءُ الثَّانِي

الْجُزْءُ الثَّانِي : الرد على النظامية الجدد

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين…
نرد هاهنا على النظامية الجدد، ابتداء نريد أن نقف مع بعض معتقدات النظامية القدامى، ثم بعد ذلك ننظر في مقالة المتأخرين، لأن هناك في حقيقة الأمر توافق بين المتقدمين والمتأخرين، ثمّ توافق في بعض الأصول، كذلك ثمّ توافق في الطرح بينهما، ثمّ توافق في منهجية التلقي، ثمّ توافق في طريقة النظر في جملة مسائل الدين عموما كما هو صريح قولهم مثلا في مسألة رد الإجماع والطعن المبطن في الصحابة كتجويز اجتماع الصحابة على الخطأ والضلالة، كذلك طعنهم في فتاوى من أفتى من الصحابة بالاجتهاد، كطعنهم في عثمان في مسألة الأذان الأول من صلاة الجمعة، طعنهم في عمر رضي الله عنه في جمعه الناس على إمام واحد في صلاة التراويح وغير ذلك من المسائل، من ينظر في جرأة هؤلاء الأغمار على دين الله تبارك وتعالى وعلى سنة النبي ﷺ وعلى الصحابة عمومًا، يعلم يقينا أن هؤلاء إنما ورثوا هذه الجرأة من الأصول التي أحدثوها والتي قلدوا فيها المعتزلة وساروا بسيرهم، فوصلوا إلى نفس النتائج التي وصلت إليها المعتزلة، يقول عبد القهار البغدادي في حكايته لمعتقد النظامية القدامى: «أما الْقَدَرِيَّة فَكيف يكونُونَ موافقيه الصحابة وَقد طعن زعيمهم النظام في أكثر الصَّحَابَة وَأسْقط عَدَالَة ابْن مَسْعُود وَنسبه إلى الضلال من أجل رِوَايَته عَن النبّي ﷺ أن السعيد من سعد في بطن أمهِ والشقي من شقي في بطن أمهِ، وَرِوَايَته انْشِقَاق الْقَمَر وَمَا ذَلك مِنْهُ إلا لإنكاره معجزات النبي ﷺ وَطعن في فَتَاوَى عمر من أجل أنه حدَّ في الْخمر ثَمَانِينَ وَنفى نصر بن الْحجَّاج إلى الْبَصْرَة حِين خَافَ فتنته نسَاء الْمَدِينَة بِهِ …. وَطعن في فَتَاوَى علي لقَوْله في أمهات الاولاد ثمَّ رَأَيْت أَنَّهُنَّ يبعن وَقَالَ من هُوَ حَتَّى يحكم بِرَأْيهِ، وثلب عُثْمَان لقَوْله في قسم المَال بَين الْجد والأم والأخت ثَلَاثًا بِالسَّوِيَّةِ، وَنسب أبا هُرَيْرَة إلى الكَذِب من أجل أن الكثير من رواياته على خلاف مَذَاهِب الْقَدَرِيَّة، وَطعن في فَتَاوَى كل من أفتى من الصَّحَابَة بِالِاجْتِهَادِ وَقَالَ أن ذَلِك مِنْهُم إنما كَانَ لأجل أمرين: إِمَّا لجهلهم بَأن ذَلِك لَا يحل لَهُم، وَإِمَّا لأنهم أرادوا أن يَكُونُوا زعماء وأرباب مَذَاهِب تُنْسب إليهم فنسب أخيار الصَّحَابَة إلى الْجَهْل أو النِّفَاق، وَالْجَاهِل بأحكام الدّين عِنْده كَافِر، والمتعمد للْخلاف بِلَا حجَّة عِنْده مُنَافِق كَافِر أوْ فَاسق فَاجر وَكِلَاهُمَا من أهل النَّار على الخلود فأوجب بِزَعْمِهِ على أَعْلَام الصَّحَابَة الخلود في النَّار الّتي هُوَ بهَا أولى، ثمَّ أنه أبطل إجماع الصَّحَابَة وَلم ير حجَّة، وَأَجَازَ اجْتِمَاع الأمة على الضَّلَالَة فَكيف يكون على سمت الصَّحَابَة مقتديا بهم من يرى مُخَالفَة جَمِيعهم وَاجِبا إذا كَانَ رَأْيه خلاف رَأْيهمْ» الفرق بين الفِرق، يقول السمعاني: « إذا تعرفنا حال الأمة وجدناهم متفقين على تضليل من يخالف الإجماع وتخطئته، ولم تزل الأمة ينسبون المخالفين للإجماع إلى المروق وشق العصا ومحادة المسلمين ومشاقتهم ولا يعدون ذلك من الأمور الهينة، بل يعدون ذلك من عظام الأمور وقبيح الارتكابات، فدل أنهم عدوا إجماع المسلمين حجة يحرم مخالفتها وفي المسألة دلائل كثيرة ذكرها الأصحاب وأوردها المتكلمون والقدر الذي قلناه كاف وهو المعتمد» قواطع الأدلة. نقول أنه بالضرورة من طعن في إجماع الصحابة إنما ذلك لحاجة في صدره، وهو حتما يسير على منهج أسلافه الذين خرجوا عن الجماعة الأولى من أهل البدع كالخوارج والقدرية ونحوهم، وهذا الذي يخرج عن إجماع الصحابة سيقول حتما في دين الله تبارك وتعالى بما لم يسبق إليه من الجماعة الأولى يعني جماعة الصحابة، وسيخالف الصحابة إلى البدعة والضلالة كما خالف المعتزلة الصحابة إلى البدعة والضلالة، وهذا القائل بهذه الأصول سيقدم فهمه على فهم الصحابة ويؤتى من ذلك كما أوتي أسلافه من الخوارج والمعتزلة، ويسير نحوهم حذو القذة بالقذة.
نقول أن هذه الأصول التي سبق ذكر بعضها وهذه الجرأة في دين الله تبارك وتعالى ستؤدي إلى نفس النتائج التي وصل إليها المعتزلة، لأن من سار على أصول قوم سيصل إلى (يعني باعتبار الأحكام والفروع) ما وصل إليه هؤلاء، وهذا ولا شك أنه الخذلان والعياذ بالله تبارك وتعالى، وهو طريق إلى الإلحاد لأن المعتزلة أنكروا السنة عموما، أنكروا أحاديث الآحاد وأنها حجة في دين الله تبارك وتعالى وقالوا أنها آحاد يعني لا توجب علما ولا عملا، وهذه الطريق هي طريق الزندقة والعياذ بالله، ومن التزم بهذه الأصول غالبا لا يسلم من الطعن في السنة، وكذلك الطعن في رجال السنة، ورواة السنة، ونقلة السنة، ويصير بعد ذلك إلى نكران السنة، ومنها إلى الإلحاد والشك في المسلمات، كما حصل لمن استرسل في طرد هذه الأصول والله المستعان، والكل يعلم أنه ثمََ نماذج سارت على هذا الطريق ووصلت إلى إنكار السنة، ووصلت إلى الإستهزاء بسنة النبي ﷺ والعياذ بالله.
نذكر ها هنا كذلك ردَّا على شبهة المتأخرين في عدِّ الإجماع مصدرا من مصادر التشريع ونقول بأن الإجماع ليس هو من مصادر التشريع كما سبق معنا، وأن هذه المقالة مقالة باطلة، وأن عامة أهل الأصول لا يقولون بأن الإجماع هو مصدر من مصادر التشريع، وإنما درج على لسان بعض المتأخرين ثم من نظر في الإجماع بهذا الاعتبار قال أن هذا باطل، ثم رتب عليه حكما باطلا في رد الإجماع دفعة، ونقول بأن التشريع إنما هو حق لله تبارك وتعالى فهو المشرع والذي شرع الأحكام في كتابه جل في علاه وأذِن للنبي ﷺ بنقل أحكام المولى تبارك وتعالى، والنبي ﷺ حكم في بعض الأحكام ونقل لنا بعض التشريعات في السنة ما لم ينزل بها كتاب الله تبارك وتعالى، فيجب علينا طاعة النبي ﷺ واتباعه فيما ورد في سنته من شرائع وأحكام، الأصل في ذلك قوله تبارك وتعالى: { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلًا ماتذكَّرون }، أما إجماع الصحابة فنقول : أنه هو اتفاق الصحابة على خبر من الأخبار وحكم من الأحكام، هذا الحكم له مستند من كتاب الله تبارك وتعالى وسنة النبي ﷺ، فيكون المصدر هو الكتاب والسنة، ثم يأتي الصحابة فيتفقون على حكمٍ، هذا الحكم له أصل من الكتاب والسنة، وهذا الاتفاق يوجب اتباع سبيل الصحابة، ويوجب كذلك سلوك سبيل الصحابة وتحرم مخالفة الصحابة والخروج على ما أجمع عليه صحابة النبي ﷺ، فيجب على التابعين أن يتبعوا الصحابة فيما اتفقوا عليه من أحكام وليس هذا من التشريع في شيء كما سبق معنا في ذكر معنى الحجية، وأنها تأتي بمعنيين، منها الذي هو التشريع استقلالا، ومنها الذي هو التعبد باتباع سبيل المؤمنين كما سبق معنا.
فالإجماع نقول أنه ليس فيه زيادة على المنصوص، يعني لا يأتي الصحابة بعد وفاة النبي ﷺ ثم يشرعون حكما أو يلزمون الناس به على جهة الاستقلال، فهذا لم يقل به أحد، ولكن الإجماع إنما هو عبارة عن اتفاق على حكم ثبت في كتاب الله وسنة النبي ﷺ، وهذا الاتفاق يعطيه معنى القطعية ويحرم مخالفة الصحابة في هذا الحكم المنصوص عليه، وفيه كذلك إلزام التابعين لهم بلزوم الجماعة الأولى من الصدر الأول وعدم الخروج على هذه الجماعة، هذا له نظائر في دين الله تبارك وتعالى، مثلا کإلزام المسلمين طاعة أولياء الأمور وتكون طاعتهم في طاعة الله تبارك وتعالى، قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } النساء، وهذا فيه وجوب طاعة الإمام ولزوم الجماعة بالأبدان وهو من جملة الأوامر ألتي أمر الله عز وجل بها، هذا لا شك أنه لا يعطي الإمام خاصية التشريع معاذ الله، ولكنه إنما يحكم بحكم الله تبارك وتعالى، ثم يجب على المحكوم أن يطيع في طاعة الله تبارك وتعالى، لذلك الذين يطعنون في الإجماع الذي هذا حده وهذا هو حقيقته نقول:
إما أنهم قوم لا فهم لهم فيما يطعنون فيه ويزعمون أن هذا هو صريح التوحيد وصريح التجريد ونحو ذلك.
أو قوم متهمون على الإسلام يريدون إسقاط عدالة الصحابة واتخاذ ذلك مطية في الخروج على هديهم وسبيلهم إلى ما تستحسنه عقولهم و أهواؤهم.
نقول كذلك في الرد على شبهة المتأخرين في تجويز الخروج على جماعة الصحابة: أنه سبق معنا بيان وجوب اتباع الصحابة رضوان الله عليهم وسرد الأدلة من كتاب الله تبارك وتعالى وسنة النبي ﷺ وسياق الآثار على ذلك، ونقول بأن الطعن في الصحابة والطعن في إجماع الصحابة هو سبيل أهل البدع من الخوارج والمعتزلة وكذلك الرافضة والجهمية الذين خرجوا على فهوم الصحابة وخرجوا على جماعة الصحابة وأحدثوا في دين الله تبارك وتعالى أعمالًا ومقالات فارقوا بها جماعة المسلمين، لذلك قال ابن عباس للخوارج حينما ناظرهم: « جئتكم من عند أصحاب رسول الله ﷺ وليس فيكم منهم أحد، (لم يكن أحد مع الخوارج من صحابة النبي ﷺ)، وجئتكم من عند ابن عم رسول الله ﷺ وعليهم نزل القرآن وهم أعلم بتأويله» جامع بيان العلم وفضله، يعني هم أعلم بتأويل القرآن منكم أيها الخوارج، فالخوارج خرجوا على فهم الصحابة واختلفوا مع الصحابة في بعض مسائل الحكم والحاكمية، ثم بعد ذلك في تحكيم الحكمين وفي بعض المسائل ناقشهم فيها عبد الله بن عباس، ثم لما خرجوا على فهومهم خرجوا على جماعتهم بأسيافهم وحصلت بينهم وبين الصحابة مشاهد ومواقع، ونقول أن التابعين الذين اتبعوا الصحابة وكانوا من التابعين لهم بإحسان فإنما اتبعوهم فيما اتفقوا عليه، وكذلك أتباع التابعين ولا يزال إن شاء الله تعالى في هذه الأمة طائفة قائمة بأمر الله تبارك وتعالى هم التابعون إن شاء الله تعالى للصحابة، وهذا الاتباع يعني اتباع الصحابة، ليس هو نقيصة في حق من اتبع، أو أنه اتباع غير مشروع، أو أنه جعل لوفاق الصحابة بمنزلة الشرع والتشريع وبمنزلة الوحي، ونحو ذلك مما يقوله المغرضون، بل هو من محاسن الاتباع، ومما أمرنا به ومما أمر الله تبارك وتعالى به من اتباع السابقين الأولين كما سبق بيانه، يقول أبو زرعة الرازي: « إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حق والقرآن الكريم حق وما جاء به حق وإنما أدى إلينا ذلك كله الصحابة، وهؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة » الكفاية. قال أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: « أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والإقتداء بهم» أصول السنة، قال الأوزاعي: « وَمَا رَأْي امرئ فِي أَمْرٍ بَلَغَهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ إِلَّا اتِّبَاعُهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَقَالَ فِيهِ أَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ كَانُوا أَوْلَى فِيهِ بِالْحَقِّ مِنَّا لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَثْنَى عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ بْاتِّبَاعِهِمْ إِيَّاهُمْ فَقَالَ: { والذين اتبعوهم بإحسان}، وَقُلْتُمْ أَنْتُمْ لَا بَلْ نَعْرِضُهَا عَلَى رَأْيِنَا فِي الْكِتَابِ فَمَا وَافَقَهُ مِنْهَا صَدَّقْنَاهُ وَمَا خَالَفَهُ تَرَكْنَاهُ وَتِلْكَ غَايَةُ كُلِّ مُحْدِثٍ فِي الْإِسْلَامِ رَدُّ مَا خَالَفَ رَأْيَهُ مِنَ السُّنَّة» ذم الكلام وأهله.

  • 🖋. . . نقف عند هذا . . .
    سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.

🖋 انتهى الدرس الثامن والأخير من سلسلة أدلة الأحكام بحمد الله.

[•••ويتبع بسلسلة الكواشف الجلية في الرد على شبهات الشعائرية بإذن الله تعالى•••].

سراج الطريق

نحن نزاعٌ من القبائل حققوا البراءة من هذه الجاهلية النكراء … نحن الغرباء الذين تقلدوا لواء الإصلاح … بقايا الحنفاء من يُصلحون إذا فسد الناس … نحن القلة المستضعفة … القلة التي تفر بدينها … القلة السالكة المستوحشة … الحاملون لجراح أمتهم … سراج الظلم في تيه الجاهلية … الأمل في عود الضياء … عِصابة المسلمين وعصارة الموحدين في زمن أقفر ما بين لبنتيها من المسلمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى