السلاسل العلميةسلسة الهداية في بيان حد الإسلام وحقيقة الإيمان بين التأصيل والتنزيل

الجَاهِلِيَّة : الدَّرْسُ الثَّانِي : الجزء الثاني

الجزء الثّاني: توصيف أوضاعِ الجاهليّةِ ٢

الحَمْدُ لِله رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالصَّلَاة وَالسَّلَام عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ أمّا بعد…..وَقَفْنَا عِنْدَ جَاهِلِيَّةِ الْوَلَاء وَالْبَرَاء وَهِيَ: جَاهِلِيَّةٌ تُقِيمُ لِلنَّاسِ أَسْمَاءً وَرَوَابِطَ وَعَلَائِقَ مَا أَنْزَلَ الله بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ، يُعْقَدُ عَلَيْهَا الْوَلَاءُ وَالْبَرَاءُ، وتَثُورُ فِيهَا الْحَمِيَّةُ وتَتَدَاعَى لَهَا النُّصْرَةُ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا قَالَهُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إِذْ جَعَلَ الذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ (٢٦)}الفَتْح، قَالَ الطَّبَرِيُّ: “لأَنَّ الَّذِي فَعَلُوا مِنْ ذَلِكَ كَانَ جَمِيعُهُ مِنْ أَخْلَاقِ أَهْلِ الْكُفْرِ, وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهُ مِمَّا أَذِنَ اللهُ لَهُمْ بِهِ, وَلَا أَحَدٌ مِنْ رُسُلِهِ” تفسير الطّبريّ، وفِي السُّنَّةِ وَرَد لَفْظُ جَاهِلِيَّةِ الْوَلَاءِ وَالْبَرَاءِ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ نَذْكُرُ مِنْهَا حَدِيثَ جَابِرٍ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: “كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَاجْتَمَعَ قَوْم ذَا، وَقَوْم ذَا، وَقَالَ هَؤُلَاءِ: يَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَقَالَ هَؤُلَاءِ: يَا لِلْأَنْصَارِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: دَعُوهَا، فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا مَا بَالُ دَعْوَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، أَلَا مَا بَالُ دَعْوَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ” مُسْنَدُ الْإِمَامِ أَحْمَد، وَلَفْظُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ هُوَ مِن الْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ ومَعَ ذَلِكَ لمَّا اسْتُعْمِل فِي غَيْرِ سِيَاقِهِ، وَخَرَجَ عَنْ أَصْلِهِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ “دعوها فإنّها منتنة”، فَمَا بَالُكَ بِمَنْ وَضَعَ لِلنَّاسِ أَسْمَاءً مَا أَنْزَلَ الله بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ وَعَقَدَ عَلَيْهَا الْوَلَاء وَالْبَرَاء، الْجَاهِلِيَّةُ الْقَدِيمَةُ كَانَتْ غَارِقَةً فِي وَحْلِ الْقَوْمِيَّةِ وَالْقَبلِيَّةِ، وَمَنْ نَظَرَ فِي أَيَّامِهِمْ وَأَشْعَارِهِمْ وَحُرُوبِهِمْ، عَلِمَ سعةَ الْحُفْرَةِ التِي اسْتَنْقَذَهُمْ مِنْهَا الْمَوْلَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى، قَالَ تعالى: {وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣)}آل عِمْرَان، قال الطّبريّ: “حدّثَنا ابنُ حُميْد قالَ حَدَّثنَا سَلَمة قال: قال ابن إسحاق: كَانَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ عِشْرِينَ وَمِائَةَ سَنَةٍ، حَتَّى قَامَ الْإِسْلَامُ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَكَانَتْ حَرْبُهُمْ بَيْنَهُمْ وَهُمْ أَخَوَانِ لِأَبٍ وَأُمٍّ، فَلَمْ يُسْمَعْ بِقَوْمٍ كَانَ بَيْنَهُمْ مِن الْعَدَاوَةِ وَالْحَرْبِ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ أَطْفَأَ ذَلِكَ بِالْإِسْلَامِ، وَأَلَّفَ بَيْنَهُمْ بِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ” تفسيرُ الطّبريّ، وَهَذَا مِصْدَاقُه قَوْلُه تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣)} الْأَنْفَال، فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْعَصْرِيَّةِ قَدْ أَقَامَ الطَّوَاغِيتُ لِلنَّاسِ آلِهَةً مُتَعَدِّدَةً مِنْهَا: الْقَوْمِيَّةُ، وَالْبَعْثِيَّةُ، وَالْوَطَنِيَّةُ، وَاللُّغَة، والعروبة، وَأَنْدِيَةُ كُرَة الْقَدَمِ وَغَيْرهَا مِن الرَّوَابِطِ وَالْعَلَائِقِ، وَهَذِهِ لَا شَكَّ أَنَّهَا لَا تَعْدُو أَنْ تَكُونَ أَصْنَاما مَعْنَوِيَّةً، يَعْنِي: أَصْنَاما غَيْرَ مُجَسَّدَة يُقَاتَلُ دُونَهَا وَيُوَالَى فِيهَا وَيُعْقَدُ الْوَلَاءُ وَالْبَرَاءُ عليها، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَّا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ۚ(٤٠)} يُوسُف، وَغَيْر ذَلِكَ مِنَ الشِّعَارَاتِ التِي يَرْفَعُهَا الْجَاهِلِيُّونَ فِي هَذَا الزَّمَانِ، الشِّعَارَاتُ الْعلْمَانِيَّةُ التِي تَمَحَّضَ فِيهَا الْوَلَاءُ لِغَيْرِ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَقَوْلِهِم: الدِّينُ لِله وَالْوَطَنُ لِلْجَمِيعِ، وَفِي بَعْضِ الْمَمَالِكِ الْعلْمَانِيَّةِ يَرْفَعُونَ شِعَارَاتٍ وَيَقُولُونَ :الله، الْمَلِكُ، الْوَطَنُ، وَهَذَا لَا شَكَّ أنْهُ تَثْلِيثٌ، فَيَقرنونَ آلِهَةَ الْوَطَنِ وَكَذَلِكَ اسْمَ الطَّاغُوتِ مَعَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، ولَاشكّ أَنَّهُ شِرْكٌ بِالله تَبَارَكَ تَعَالَى، كَذَلِكَ مِنْ شِعَارَاتِهِم الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ الْوَطَنِ، فَيُقَاتِلُونَ دُونَهُ وَيُوَالُونَ فِي رَابِطَةِ الْوَطَنِيَّةِ أَو الْمُوَاطَنَةِ .

¤ النَّوْعُ الْآخَرُ مِنْ أَنْوَاعِ الْجَاهِلِيَّةِ هِيَ: جَاهِلِيَّةُ الْقِيَمِ وَالْأَخْلَاقِ, وَهِيَ: جَاهِلِيَّةٌ تُقِيمُ لِلنَّاسِ عَادَاتٍ وَأَعْرَاف وقِيَم وَتَقَالِيدَ عَلَى مِيزَانِ الْهَوَى لَا عَلَى مِيزَانِ الشَّرْعِ، فَمِيزَانُ الْفَضَائِلِ وَالرَّذَائِلِ عِنْدَهُمْ هُوَ اللَّذَّةُ، فَمَا وَافَقَ اللَّذَّةَ فَهُوَ فَضِيلةٌ، وَمَا خَالَفَ اللَّذَّةَ وَالْهَوَى فَهُوَ رَذِيلَةٌ، كَمَا قَالَ الْمَوْلَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (٤٣)} الْفُرْقَان، وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْجَاهِلِيَّةِ مَا قَالَهُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ} الْأَحْزَاب، وَقَدْ ذَكَرَ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى التَّبَرُّجَ كَمِثَالٍ وَنَوْعٍ لِهَذِهِ الْجَاهِلِيَّةِ، لِأَنَّ التَّبَرُّجَ هُوَ: بَرِيدُ الزِّنَا وَالْفَاحِشَةِ، قَالَ الطَّبَرِيُّ في تفسيره: “قَالَ قَتَادَةُ: كَانَتْ لَهُنَّ مِشْيَة وَتُكَسُّر وَتَغَنُّج يَعْنِي بِذَلِكَ: الْجَاهِلِيَّةَ الْأُولَى، فَنَهَاهُنَّ الله عَنْ ذَلِكَ” ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ في تفسيره: “وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: {وَلَا تَبَرِّجَنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} وَالتَّبَرُّجُ: أَنَّهَا تُلْقِي الْخِمَارَ عَلَى رَأْسِهَا، وَلَا تَشُدُّهُ فَيُوَارِي قَلَائِدَهَا وَقُرْطَهَا وَعُنُقَهَا، وَيَبْدُو ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْهَا، وَذَلِكَ التَّبَرُّجُ ” تَفْسِيرُ ابْن كَثِيرٍ .
طَبْعًا الْجَاهِلِيَّةُ الْأُولَى كَانَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ الْحِشْمَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي أَشْعَارِهِمْ كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ:
“سَقَطَ النَصِيفُ وَلَمْ تُرِدْ إِسْقَاطَهُ*
فَتَنَاوَلَتْهُ وَاتَّقَتْنَا بِالْيَدِ”
وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا وَرَدَ فِي أَشْعَارِهِم، طَبْعًا لَوْ عَقَدْنَا مُقَايَسَةً بَيْنَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى وَهَذِهِ الْجَاهِلِيَّةِ الْعَصْرِيَّةِ فِي هَذَا الْبَابِ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْبَوْنَ شَاسِعٌ وَاسِعٌ، لَا تَنْظُرْ إِلَى عَارِضَاتِ الْأَزْيَاءِ فِي هَذَا الزَّمَانِ فِي الْفَنَادِقِ وَالْقَنَوَاتِ وَلَكِن انْظُرْ إِلَى الْعَارِضَاتِ فِي الشّوَارِعِ وَالله الْمُسْتَعَانُ، فَاللَّحْمُ الْعَارِي الْمُتَنَاثِرُ هُنَا وَهُنَاكَ يُثِيرُ اشْمِئْزَازَ أَصْحَابِ الْفِطرِ السَّلِيمِة، طَبْعًا لَيْسَ لِلْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى خُصُوصِيَّةٌ فِي هَذَا الْبَابِ، بَلْ هَذِهِ الْجَاهِلِيَّةُ الْعَصْرِيَّةُ بَلَغَتْ الذّرْوَةَ فِي مَظَاهِرِ الْعُرْيِ وَدَوَاعِي الْفَسَادِ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ .
بَعْدَ طَرْحِ هَذَا الْمُخْتَصَرِ لِأُصُولِ الْجَاهِلِيَّةِ نَصِلُ بِإذِنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى تَصَوُّرِ حَقِيقَةِ الْوَضْعِ الْجَاهِلِيِّ وَحَقِيقَةِ التَّرْكِيبَةِ الَّتِي يَقُومُ عَلَيْهَا بَيْنَ التَّأْصِيلِ وَالتَّنْزِيلِ، وَأَظُنُّ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِلْمُنْصِفِ أَدْنَى رَيْبٍ أَوْ شَكٍّ أَوْ تَرَدَّدَ فِي أَنَّ هَذِهِ الْمُجْتَمَعَاتِ الَّتِي نَعِيشُ فِيهَا فِي هَذَا الزَّمَانِ يَتَحَقَّقُ فِيهَا اسْمُ الْجَاهِلِيَّةِ وَوَصفها الْوَارِد فِي كِتَابِ رَبِّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَسُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
إِذَا عَرَفْنَا وَضْعَ الْجَاهِلِيَّةِ نَسْتَطِيعُ أَنْ نَتَصَوَّرَ الْإِسْلَامَ الَّذِي يَحِلُّ عَلَى هَذِهِ الْجَاهِلِيَّةِ فَيَقْتَلِعُهَا مِنْ جُذُورِهَا ثُمَّ يُقِيمُ أَوْضَاعَ الْإِسْلَامِ، فَالْإِسْلَامُ يَدْعُو هَذِهِ الْمُجْتَمَعَات إِلَى تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ لِله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَكَذَلِكَ يَدْعُوهَا إلَى تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، بِإِفْرَادِ الله عَزَّ وَجَلَّ بِالْحُكْمِ وَالتَّشْرِيعِ وَإِقَامَةِ دِينِ الله عَزَّ وَجَلَّ فِي الْأَرْضِ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِسِيَادَةِ الشَّرِيعَةِ الرَّبَّانِيَّةِ، فَهَذِهِ الصُّورَةُ الْوَحِيدَةُ التِي يَتَحَرَّرُ فِيهَا هَؤُلَاءِ الْعَبِيدُ مِنْ رِبْقَةِ الْعُبُودِيَّةِ لِلْعَبِيدِ، وَكَذَلِكَ يَدْعُوهَا إِلَى إِفْرَادِ الْمَوْلَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِتَوْحِيدِ الْعِبَادَةِ وَإِفْرَادِ الله عَزَّ وَجَلَّ بِالنُّسُكِ وَالشَّعَائِرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَخَلْعِ الْآلِهَةِ وَالْبَرَاءَةِ مِنْ عَابِدِيهَا .

والْجَاهِلُي لَا يَخْرُجُ مِنْ هَذَا الدِّينِ الْوَضْعِيِّ الَّذِي غَمَسَهُ فِيهِ الطَّوَاغِيتُ إِلَّا بِاعْتِقَادِ أَنَّ الْعِبَادَةَ حَقٌ لِله تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَحْدَهُ، كَمَا أَنَّ الْحُكْمَ حَقٌ لِله عَزَّ وَجَلَّ وَحْدَهُ، وَيُفْرِد الله عَزَّ وَجَلَّ بِالتَّلَقِّي وَالِاتِّبَاعِ فِي الشَّرَائِعِ، وَالْأَوْضَاعِ، وَالتَّحَاكُمِ إِلَى شَرْعِهِ حَالَ الْخُصُومَةِ وَالنِّزَاعِ، وَيَخْلَعُ جَمِيعَ الطَّوَاغِيتِ الْبَاطِلةِ وَالْآلِهَةِ، وَكَذَلِكَ الأرْبَاب وَالْأَنْدَاد، وَيَتَبَرَّأُ مِنْهَا وَمِنْ عَابِدِيهَا، وَالْمُتَابِعِينَ لِأَنْظِمَتِهَا الْمُتَحَاكِمِينَ لِشَرْعِهَا وَالْخَاضِعِينَ الْمُنْقَادِينَ لِسُلْطَانِهِمْ، وَاعْتِقَادِ أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ عَلَى دِينٍ بَاطِلٍ، والْإِسْلَامُ كَذَلِكَ يَدْعُو هَذِهِ الْمُجْتَمَعَاتِ إِلَى التَّجَمُّعِ عَلَى رَابِطَةِ الدِّينِ وَالْعَقِيدَةِ، وَالْوَلَاءِ لِله وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْبَرَاءَة مِنْ جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ وَتَكْفِيرِهِمْ، والْإسْلَامُ كَذَلِكَ يَدْعُو هَذِهِ الْمُجْتَمَعَات لِاسْتِمْدَادِ الْقِيَمِ، وَالْمَوَازِينِ مِنَ الشَّرْعِ لَا مِنَ الْهَوَى، فَالْمُسْلِمُونَ إِذَا خَلصَتْ نُفُوسُهُمْ لِله عَزَّ وَجَلَّ وَذَلَّتْ وَاسْتَسْلَمَتْ لَهُ بِالتَّوْحِيدِ وَأَفْرَدَتْهُ بِالْعِبَادَةِ، وَكَذَلِكَ التَّلَقِّي وَالِاتِّبَاع، أَصْبَحُوا لَا يَجِدُونَ فِي أنْفُسِهِمْ خِيرَةً إِلَّا فِيمَا اخْتَارَهُ الله عَزَّ وَجَلَّ، حِينَذَاكَ يَرْتَفِعُونَ عَنْ رذائلِ هَذِهِ الْجَاهِلِيَّةِ وَيَأْتَمِرُونَ بِأَمْرِ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمََا يُخَاطِبُهُمْ بِنِدَاءِ الْإِيمَانِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فَيَفْتَحُونَ آذَانَهُمْ وَأَسْمَاعَهُمْ، وَيَمْتَثِلُونَ لِأَمْرِ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمَّا يَدْعُوهم بِهَذَا الدُّعَاءِ الْعَظِيمِ، هَذِهِ هِيَ الدَّعْوَةُ التِي جَاءَ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ، وَهَذِهِ الرِّسَالَةُ الَّتِي حَمَلَهَا مَوْكِبُ النُّورِ إِلَى هَذِهِ الْجَاهِلِيَّةِ النَّكْرَاءِ، وَإِلَى هَؤُلَاءِ الْأَقْوَامِ الَّذِينَ انْحَرَفَتْ فِطَرُهُمْ، وَدَخَلُوا فِي أَدْيَانِ الْأَرْضِ أَفْوَاجًا لِإِخْرَاجِهِمْ مِنْ ظُلُمَاتِهَا إِلَى نُورِ الْإِسْلَامِ وَالتَّوْحِيدِ، وَبِهَذَا التَّصَوُّرِ يُفَرِّقُ الْمُسْلِمُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَامِ فَيَعْرِفُ الْوَضْعَ الْجَاهِلِيَّ وَيَعْرِفُ الْمُجْتَمَعَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالدِّيَارِ، فَإِذَا نَظَرَ فِي هَذِهِ الْأَوْضَاعِ عَرَفَ وَتَبَيَّنَ مِنْ مَعَالِمِهَا حَالَهَا، فَيَكُونُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ أَمْرِهِ حِينَمَا يَتَلَقَّى الْحَدَّ مِنْ كِتَابِ رَبِّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، فَيَتَعَبَّدُ رَبَّهُ عَلَى بَصِيرَةٍ وَهِدَايَةٍ مِنْ حَالِ قَوْمِهِ، كَمَا قَالَ الفِتْيَةُ الَّذِينَ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزَادَهُمْ الله هِدَايَةً: {هَٰؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ۖ لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّن (١٥)}الْكَهْف، بَعْدَ هَذَا الْقَدْرِ مِن التَّأْصِيلِ وَالتَّنْزِيلِ نَجِدُ أنْفُسْنَا أَمَامَ حَتْمِيَّة الْجَوَابِ عَلَى السُّؤَالِ الذِي يَنْقَدِحُ فِي ذِهْنِ الْمُسْتَمِعِ عَنْ حَدِّ الْإِسْلَامِ، بَعْدَ أَنْ ذَكَرْنَا حَدَّ الْجَاهِلِيَّةِ وَأَوْضَاعَهَا وَتَوْصِيفَهَا, نَذْكُرُ بِإِذْنِ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ حَدَّ الْإِسْلَامِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ لِإِخْرَاجِ النَّاسِ مِن الْجَاهِلِيَّةِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَكَذَلِكَ نَذْكُرُ الْقَدْر الَّذِي يَجِبُ عَلَى الجَاهِلِ أَنْ يُحَقِّقَهُ فِي هَذِهِ الْمُجْتَمَعَاتِ لِيَخْرُجَ مِنْ هَذِهِ الأَدْيَانِ الْوَضْعِيَّةِ، وَيَقْطَعَ رِبْقَةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَيُفْرِدَ الله عَزَّ وَجَلَّ بِالطَّاعَةِ وَالْحَاكِمِيَّةِ، وَيَتَحَقَّق بِالْإِسْلَامِ الصَّحِيحِ، وَالْإِسْلَامُ هُوَ: الِاسْتِسْلَامُ لِله بِالتَّوْحِيدِ وَالِانْقِيَاد لَهُ بِالطَّاعَةِ والاتباع وَالْبَرَاءَةُ مِن الشِّرْكِ وَالْأَقْوَامِ الْمُشْرِكَةِ، وَهَذَا الْحَدُّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَرْكَانٍ مَنْ لَمْ يَأْتِ بِهَا جَمِيعًا لَا يُسَمَّى مُسْلِمًا، كَمَا أَنَّهَا إِذَا لَمْ تَقُمْ فِي الْأَرْضِ بِمَجْمُوعِهَا وَأَرْكَانِهَا لَا يُسَمَّى الْقَوْم وَالدَّارُ بِالْمُسْلِمِينَ، وَسَيَأْتِي مَعَنَا التَّفْصِيلُ بَعْدَ هَذَا الْإِجْمَالِ بِإِذْنِ الله عَزَّ وَجَلَّ فِي بَيَانِ أَرْكَانِ هَذَا الْحَدِّ، وبَيَانُ رُكْنِ الِاسْتِسْلَامِ لِله بِالتَّوْحِيدِ، ورُكْن الِانْقِيَادِ لَهُ بِالطَّاعَةِ، وَإِفْراد مَسْأَلَةِ الْحَاكِمِيَّةِ وَالطَّاعَةِ بِالْبَيَانِ وَالتَّأْصِيلِ، وَكَذَلِكَ نَطْرُقُ مَسْأَلَةَ الْبَرَاءَةِ مِنَ

الشِّرْكِ وَالْبَرَاءَة مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَهَذِهِ الْأَقْوَامِ التِي أَشْرَكْتْ بِالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى .
نَقِفُ عِنْدَ هَذَا، سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ بِحَمْدِكَ أَشْهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ.

• • • انتهى الدّرس الثّاني بحمد الله • • •

سراج الطريق

نحن نزاعٌ من القبائل حققوا البراءة من هذه الجاهلية النكراء … نحن الغرباء الذين تقلدوا لواء الإصلاح … بقايا الحنفاء من يُصلحون إذا فسد الناس … نحن القلة المستضعفة … القلة التي تفر بدينها … القلة السالكة المستوحشة … الحاملون لجراح أمتهم … سراج الظلم في تيه الجاهلية … الأمل في عود الضياء … عِصابة المسلمين وعصارة الموحدين في زمن أقفر ما بين لبنتيها من المسلمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى