السلاسل العلميةسلسلة أدلّة الأحكام

الرّد على قولهم لو كانت السنة حجة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابتها…والرّد على شبهة مفهوم العدالة والضبط…: الدرس الثالث: لجزء الأول

الجزء الأول: الرّد على شبهة النهي عن كتابة السّنة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين…
لا يزال حديثنا في سلسلة أدلة الأحكام، وقفنا في الرد على شبهات المشككين ممن ينكر حجية السنة، سبق معنا الرد على شبهتهم في أن القرآن قد حوى على كل شيء من الأحكام والشرائع، قالوا فلا حجة للسنة، وكذلك الرد على شبهة عموم البيان في كتاب الله تبارك وتعالى وبيان حجية خبر الآحاد في الأخبار، كذلك من الشبهات التي يذكرونها قولهم لو كانت السنة حجة لأمر النبي صلى الله عليه بكتابتها ولعمل الصحابة على جمعها وتدوينها، هؤلاء بداية نسألهم هل السنة حجة على فرض ثبوتها عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ أي لو أن هذه اللفظة ثبتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم هل تكون عندكم حجة؟ إن أقروا فالحديث معهم ليس على الحجية وإنما الحديث معهم على طرق قبول الخبر، وإن رفضوا هذا المتوقع منهم، فلا حديث معهم على الكتابة، لأن السنة لو كتبت ووثقت وثبتت كما يزعمون فإنهم لا يعتبرونها حجة، إذا فلماذا يريدون مسألة الكتابة ها هنا؟ نقول هو تشغيب منهم على السنة وكذلك تشكيك في السنة بمثل ما يطرحونه من هذه الشبهات، صيغة هذه الشبهة في حقيقة أمرها أنهم يقولون أن الأمر يجب امتثاله وقبوله إذا كان مكتوبا، أما إذا لم يكن مكتوبا فلا يقبل وهو مردود، وهذا لاشك أنه في غاية الفساد ولم يقل به أحد من الناس، نقول لهم في الحجاج العقلي أن الله تبارك وتعالى قد اطلع بعلمه على أقوال وأفعال النبي صلى الله عليه وسلم، وعلم أن الناس سينقلون كلامه وأفعاله ويتأسون به وينشرونه ويعملون بمقتضاه، لو كان هذا باطلا أو خطأ لكان ذلك إضلالا للخلق، فهل يقرره المولى تبارك وتعالى!!! عياذ بالله، فلما أقرّه المولى تبارك وتعالى علمنا أنه حق وأنه من عند الله تبارك وتعالى، لذلك كان من فقه الصحابة أن بعضهم استدل على جواز العزل بأن الله عز وجل كان يعلم ذلك ولم ينه عنه كما روي عن جابر بن عبد الله قال: كنا نعزل ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا والقرآن ينزل” “زاد إسحاق، قال سفيان: لو كان شيئا ينهى عنه لنهانا عنه القرآن” مسلم ،فإذا تقرر أن السنة قد أقرها المولى تبارك وتعالى وأن الله قد صوّب نبيه في مواضع، وأنّبه في مواضع كقوله {يا أيها النبي اتق الله} الأحزاب، وقوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ (1) أَن جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ (2)}عبس، فإن كان الله تبارك وتعالى قد أنّبه على هذا، فكيف يقره المولى تبارك وتعالى على تحليل وتحريم وتفسير وبيان ونحو ذلك؟!! وهل يقول أحد أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم مثله مثل كلام أحد من البشر؟!!! هذا لا يقوله أحد
كذلك نقول أن الكتابة ليست من لوازم الحجية، لأن صفة حفظ السنة وصيانتها من التبديل والتغيير والاختلاط بكلام الناس هو أن يتحملها الثقة العدل الضابط عن مثله وهكذا إلى نهاية السند، سواء كان هذا التحمل على سبيل الحفظ لهذه اللفظة وإيداعها الصدر، أو كان بالكتابة لها أو كان بالفهم لمعناها فهما دقيقا مع التعبير عن ذلك المعنى بلفظ واضح الدلالة عليه دون لبس ولا إبهام، هذه يسمونها الرواية بالمعنى بشروطها عندهم أن تكون في غير جوامع الكلم، وأن تكون في غير ألفاظ التعبدات وأن تكون من عربي يفهم مآلات الأحكام ونحو ذلك مما اشترطوه.

فنقول إن أي نوع من أنواع الضبط وقع من الراوي سواء كان ضبط الصدر أو ضبط الكتاب يكفي في الحفظ والصيانة ما دامت صفة العدالة متحققة، فإن اجتمعت إلى العدالة ضبط صدر وضبط كتاب كان ذلك في الغاية والنهاية من الحفاظ والمحافظة على السنة، فإذا عرفنا أن الأصل في حفظ الحجة هو حفظ الصدر كما قال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ۚ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ(49)} العنكبوت، فالأصل في حفظ الحجة هو حفظ الصدر مع عدالة الحامل لها عرفنا إذا أن الكتابة ليست من لوازم الحجية، لأن الأصل في الحفظ هو حفظ الصدر مع وجود العدالة، وعرفنا كذلك أن صيانة الحجة غير متوقفة على الكتابة، وأن الكتابة ليست هي السبيل الوحيد لحفظ الحجة، وهذا أمر واضح بإذن الله تبارك وتعالى، فإن قال قائل للحفظ آفات كالنسيان نقول كذلك للكتابة آفات كما قال شاعرهم:
عليك بالحفظ دون الجمع في كتب … فإن للكتب آفات تفرقها
الماء يغرقها، والنار تحرقها …
والفأر يخرقها، واللص يسرقها
حصل ذلك لجملة من العلماء كأبي عمرو بن العلاء المتوفى في مئة وأربعة وخمسين للهجرة، أبو عمرو احترقت كتبه فكان يحدث من حفظه إلى آخر عمره، وروي كذلك عن أبي بكر الجعابي يقول:
“دخلت الرقة وكان لي ثم قِمْطَرٌ من كتب، فأنفذت غلامي إلى ذلك الرجل الذي كتبي عنده، فرجع الغلام مغمومًا فقال: ضاعت الكتب، فقلت: يا بني لا تغتم، فان فيها مائتا ألف حديث لا يشكل عليّ منها حديث لا إسنادًا ولا متنًا.” المنتظم،
فكان يحفظها بإسنادها ومتنها، علماء الحديث بعد اتفاقهم على صحة الأخذ بالسماع والتحديث بالسماع وهو أعلى درجات الأخذ والتحمل عن الرواة أن يقول حدثنا أو سمعت ونحو ذلك، واختلفوا بعد هذا الاتفاق على صحة الرواية بطريق المناولة أو طريق المكاتبة، فمنهم من أجازها ومنهم من لم يجزها،
فمن أجاز قيام الحجة بالمكاتبة قال أن يكون الكتاب مختوما وحامله مؤتمنا والمكتوب إليه يعرف خط الشيخ إلى غير ذلك من الشروط التي هي دافعة لتوهم التغيير.
فإن قال قائل: إذا كان أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – بكتابة القرآن ليس منشؤه الحجية، ولا أن الكتابة مفيدة للحجيّة، فما الحكمة إذن في هذا الأمر؟ وما هي الحكمة في أنه لم يأمر بكتابة السنة؟ فنقول أن الحكمة في أمره بكتابة القرآن دون غيره لأمور عديدة منها: لعدم الاشتغال عن القرآن بغيره كما قال إسماعيل بن علية: “أن الصحابة إنما كرهوا الكتابة لأن من كان قبلكم اتخذوا الكتب؛ فأعجبوا بها؛ فكانوا يكرهون أن يشتغلوا عن القرآن” تذكرة الحفاظ، وكما قال في ذلك كذلك الخطيب البغدادي:
(إن كراهة من كره الكتابة من الصدر الأول إنما هي لئلا يضاهي بكتاب الله تعالى غيره، أو يشتغل عن القرآن بسواه” تقييد العلم.
منها كذلك الحفاظ على ملكة الحفظ عند المسلمين لأن الاتكال على الكتاب يضعف بركة الحفظ، لذلك كان بعضهم يكتب ثم يمحو ما كتب، ولو كان النهي عن الكتابة مستقرا عندهم لما كتبوا ابتداء، “قَالَ شُعْبَةُ: وَقَالَ خَالِدٌ الْحَذَّاءُ مَا كَتَبْتُ حديثا قَطُّ إِلَّا حَدِيثًا طويلا، فَلَمَّا حَفِظْتُهُ مَحَوْتُهُ” تاريخ أسماء الثقاة.
ومنها كذلك لعدم اختلاط القرآن بغيره، يعني النهي عن كتابة القرآن دون غيره معه لعدم اختلاط القرآن بغيره مما قد يكتب عن النبي صلى الله عليه وسلم من تفسيره وبيانه، أو مما يكتب عن النبي صلى الله عليه وسلم من الحديث القدسي المروي عن الله تبارك وتعالى، فالنهي عن الكتابة لهذه العلة التي بيّنها جابر بن عبد الله وكذلك زيد بن ثابت الذين جمعوا القرآن قالوا: لقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كتابة حديثه مع القرآن في الصحيفة فيختلط القرآن بتفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم له، ولما استقر العلم بالقرآن أذن النبي صلى الله عليه وسلم بالكتابة.
من الحكم كذلك أن كتابة القرآن فيه حفظ لترتيب الآيات، ووضعها بجانب بعضها البعض كما نزلت، لأن القرآن كما يعلم أنه نزل جبريل منجما على حسب الوقائع والحوادث، وترتيب الآيات كما هو معلوم توقيفي فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم تنزل عليه الآيات فيقول للكاتب اكتبها في مكان كذا أو في موضع كذا بجانب كذا، فكان يكتب الكاتب هذه الآية في موضعها، وهذا لا شك أنه من أسباب الحفظ، فيكون ذلك بكتابة القرآن، قوة، والكتابة كما هو معلوم من طرق الإثبات وإن كانت أضعف من الحفظ بالصدور، وإذا انضمت إلى بعضها البعض ازدادت قوة إلى قوة.
فإن قال قائل لو كان الأمر قد اقتصر على ألّا يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة السنة لكان فيما ذكرت مقنعا ومدفعا لشبهتنا، لكن الأمر لم يقتصر على ذلك بل تعداه إلى نهيه عن كتابتها وأمره بمحو ما كتب منها، قالوا وذلك يدلنا على رغبته في عدم نقلها إلى من بعده وتلك الرغبة تستلزم عدم الحجية، إذ لو كانت حجة لما منع من نقلها بأي طريق من طرق النقل،

فنقول أن هذا الكلام ليس بصحيح وهو كلام فاسد لأنه بني على أمر فاسد لأنه سبق معنا تقارير أن الكتابة وعدمها ليس هو دليل الحجية، فقد تكون السنة حجة وتلزم هذه الأمة بحفظها وليس بكتابتها، لأن أصل الحفظ عند العرب هو حفظ الصدور، لأن الأمة كانت أمة أمية لا تكتب فأصل الحفظ عندهم هو حفظ الصدور، ثم النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بالحفظ والبلاغ عنه صلى الله عليه وسلم، أمر بذلك أمرا عاما كما ورد في حديث عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “نضَّر الله امرءًا سمِع مقالَتي فوعاها وحفِظها وبلَّغها فرُبَّ حاملِ فقهٍ إلى من هو أفقهُ منه” رواه الترمذي وغيره، فهذا أمر عام بالحفظ والبلاغ عن النبي صلى الله عليه وسلم، يقول الشافعي: “فلما ندب رسول الله إلى استماع مقالته وحفظها وأدائها دل على أنه لا يأمر أن يؤدى عنه إلا ما تقوم به الحجة على من أدى إليه؛ لأنه إنما يؤدي عنه حلال يؤتى وحرام يجتنب، وحد يقام ومال يؤخذ، ويعطى، ونصيحة في دين ودنيا” الرسالة.
العرب تواتر عنهم قوة الحفظ الشيء العجيب حقيقة، هم كانوا أمة أمية لا يقرأون ولا يكتبون فكان الصدر هو محل الحفظ عند العرب، فكانوا يحفظون الأنساب الطويلة ويحفظون المعلقات الطوال والقصائد التي قد تصل إلى ألف بيت، وهذا كله من أول سماع يعني حافظة فوتوغرافية حقيقة، لذلك روي عن أبي هريرة كان يضع القطن في أذنه إذا دخل السوق لئلا يحفظ حديث التجار وما يدور في الاسواق، ابن عباس كان يسمع القصيدة الطويلة فيحفظها من أول سماع، ويسأل عن ذلك فيستغرب ويقول أو ينسى ما يسمع، كان الصحابة عموما يعتمدون في حفظ السنة على قوة حفظهم وجودة قرائحهم، كذلك التابعين لهم يقول الشعبي: “ما وضعت سوداء في بيضاء قطُّ، ولا حدثني أحدٌ بحديثٍ فاحتجتُ إلى أن يعيده علي” يقول قتادة كذلك:”ما قلت لمحدث – قط -: اعد علي، وما سمعت أذناي – قط – شيئًا إلا وعاه قلبي” الحث على طلب العلم، يقول أحمد رحمه الله: “كان قتادة أحفظ أهل البصرة لا يسمع شيئا إلا حفظه” الجرح والتعديل، يقول الثوري: “ما استودعت قلبي شيئا قطّ فخانني.”المجالسة، حتى قال هشيم بن بشير: «من لم يحفظ الحديث فليس هو من أصحاب الحديث يجيء أحدهم بكتاب يحمله كأنه سجل مكاتب» الكامل، يقول بعضهم:
استودع العلم قرطاسا فضيعه …
وبئس مستودع العلم القراطيس
الحث على طلب العلم،
فكانوا يرون أن الحفظ إنما هو يكون في الصدور كما رويت أبيات عن منصور الفقيه يقول:
علمي معي حيث ما يممت يتبعني …
صدري وعاء له لا بطن صندوق
إذا كنت في البيت كان العلم فيه معي … وإذا كنت في السوق كان العلم في السوق”
الذي ذكره صاحب هذه الشبهة ليس بصحيح لأن الصحابة كتبوا صحائف كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يظن البعض أن أول من دوّن الحديث وكتب الحديث هو ابن شهاب الزهري رحمه الله تعالى المتوفي في مئة وأربعة وعشرين للهجرة، وابن شهاب يعد من طبقة صغار التابعين، فنقول أن هذا ليس بصحيح بل الصواب أن الصحابة دوّنوا بعض السنة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ورويت عنهم صحائف في ذلك كالصحيفة الصحيحة التي كتبها أبو هريرة ورواها عنه همام وفيها تقريبا مئة وأربعين حديثا روى عنه منها البخاري احاديث في صحيحه، وكذلك روى منها أحمد في مسنده قرابة الثلاثين حديثا، وهي الآن قد طبعت وكذلك نشرت، منها كذلك صحيفة سمرة بن جندب وكان سمرة قد جمع أحاديث كثيرة في نسخة الكبيرة وقد رثها عنه ابنه سليمان ورواها سليمان عن أبيه سمرة، وهذه الصحيفة التي يقول فيها ابن سيرين: “وفي رسالة سمرة الى بنيه علم كثير” معرفة الصحابة، وأخرجها أبو داوود وكذلك النسائي في الكبرى وغيرهم من أهل الحديث، منها كذلك صحيفة ابن أبي أوفى ذكرها البخاري في كتاب الجهاد، كذلك صحيفة سعد بن عبادة، وصحيفة جابر بن عبد الله، والصحيفة الصادقة التي هي لعبد الله بن عمرو بن العاص رواها أحمد في في مسنده، وكذلك صحيفة المدينة ونحو ذلك، من ذلك كذلك كتاب عمرو بن حزم الذي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، وهذا كتاب فيه الفرائض والسنن والديات وغيرها، بعث به النبي صلى الله عليه وسلم مع عمرو بن حزم فقرئت على أهل اليمن، هذه الصحيفة رواها ابن حبان والنسائي والحاكم وغيرهم، كذلك كتاب أنس في مقادير الزكاة رواه البخاري بسنده عن أنس، قال أنس أن أبا بكر كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين، وقال فيه هذه فريضة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالكتابة لأبي شاه وهو رجل من اليمن كما رواه أبو هريرة قال: لما فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة، قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الله حبس عن مكة الفيل،

وسلط عليها رسوله والمؤمنين فإنها لا تحل لأحد كان قبلي، وإنها أحلت لي ساعة من نهار، وإنها لا تحل لأحد بعدي، فلا ينفر صيدها، ولا يختلى شوكها، ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد، ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يفدى وإما أن يقيد فقال العباس: إلا الإذخر، فإنا نجعله لقبورنا وبيوتنا؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلا الإذخر فقام أبو شاه، رجل من أهل اليمن؛ فقال: اكتبوا لي يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتبوا لأبي شاه. قلت للأوزاعي: ما قوله “اكتبوا لأبي شاة”؟ قال: هذه الخطبة التي سمعها من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ” أخرجه البخاري وأبو داود وغيره.

  • كذلك اوضح من هذا وأجلى في الاستدلال ما روي عن عبد الله بن عمرو قال: “كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله -صلي الله عليه وسلم – أريد حفظه، فنهتني قريش، فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله -صلي الله عليه وسلم -، ورسول الله -صلي الله عليه وسلم – بشر، يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -؟، فقال: “اكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق” مسند أحمد.
    • كذلك من حديث رافع بن خديج -رضي الله عنه- قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “تحدثوا، وليتبوأ من كذب علي مقعده من جهنم”. قلت: يا رسول الله، إنا نسمع منك أشياء، أفنكتبها؟، فقال: “اكتبوا ولا حرج”. هذه الآثار التي ذكرنا بعضا منها رواها الخطيب بجملتها في كتابه تقييد العلم، ذكر منها جملة واسعة، قال في نهاية الفصل الرابع من القسم الثالث: قد أوردت من مشهور الآثار ومحفوظ الأخبار عن رسول رب العالمين وسلف الأمة الصالحين، ورضي عنهم أجمعين، في جواز كتابة العلم وتدوينه، وتجميل ذلك الفعل وتحسينه، ما إذا صادف بمشيئة الله قوي شك رفعه أو عارض ريب قمعه ودفعه” انتهى كلامه. طبعا نقول ها هنا أن ثمة فرق بين التدوين وبين التصنيف، فالتدوين بمعناه الواسع الذي هو الجمع أو الكتابة كذلك هذا بدأ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا الصحائف التي كتبت في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، أما التصنيف الذي هو الترتيب والتبويب والتمييز في المصنفات ونحو ذلك، هذا وقع في عهد عمر بن عبد العزيز ابتداء الجمع الذي هو التصنيف وليس التدوين، يعني مرحلة التدوين كانت في عهد الصحابة كما سبق معنا، أما مرحلة التصنيف بدأت في عهد عمر بن عبد العزيز، يعني تقريبا على رأس المئة، فبدأ ذلك لما كتب عمر لأبي بكر بن حزم أن يجمع السنن.
    • لقائل أن يستشكل ويقول ما هي العلة ولماذا دونت السنة في هذه المرحلة؟ يجيب على ذلك الخطيب فيقول: “إنما اتسع الناس في كتب العلم وعولوا على تدوينه في الصحف بعد الكراهة لذلك، لأن الروايات انتشرت والأسانيد طالت وأسماء الرجال وكناهم وأنسابهم كثرت، والعبارات بالألفاظ اختلفت، فعجزت القلوب عن حفظ ما ذكرنا، وصار علم الحديث في هذا الزمان أثبت من علم الحافظ، مع رخصة رسول الله صلى الله عليه لمن ضعف حفظه في الكتاب، وعمل السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين بذلك” تقييد العلم، لذلك جمعت السنة وصنفت في هذه المرحلة، فالتصنيف وقع في حلقة أتباع التابعين يعني الحلقة الثالثة بعد جيل الصحابة، الصحابة ثم التابعون ثم التابعون لهم بإحسان، فهذه السلسلة التي روت السنة وهم نقلة الدين إلى هذه الأمة، ويعتبر هذا الجيل هو جيل تأسيس علوم السنة المطهرة، وفيه عاش جهابذة رجال السنة أمثال الأئمة كمالك والشافعي والثوري والأوزاعي وشعبة وابن المبارك وإبراهيم الفزاري وابن عيينة وكذلك القطان وابن مهدي ووكيع وغيرهم من الأئمة الذين حفظ الله تبارك وتعالى بهم السنة على هذه الأمة، يذكر بعضهم الأحاديث التي نهت عن الكتابة، فما روي في الباب كله ضعيف حقيقة في النهي عن الكتابة أو النهي عن محي ما كتب إلا حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” لا تكتبوا عني, ومن كتب عني غير القرآن فليمحه, وحدثوا عني ولا حرج ومن كذب علي – قال همام: أحسبه قال: متعمدا ـ فليتبوأ مقعده من النار” مسلم وغيره، وهذا أصح ما ورد في الباب، وكل ماروي في النهي عن الكتابة فضعيف، حتى هذا الحديث حديث أبي سعيد وإن كان في مسلم أعله البخاري بالوقف على أبي سعيد. عبد الرحمن المعلمي ناقش ما ورد من ذلك يعني في النهي عن الكتابة وبيّن ضعف ماروي من ذلك ثم قال: “هذه إن صحَّت (يعني هذه الأخبار)حجة لما قلناه، فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كتابة الحديث مطلقا لما جمع أبو بكر ثم أحرق، ولا همَّ عمر ثم عدل، ولا كتب غيرهما ثم محا ما كتب، ثم هذه الروايات تنصُّ على عللٍ من أجلها أحرق من أحرق ومحا من محا ما كتبوه، وليس منها نصٌّ واحدٌ على ذكر النهي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك” الأنوار الكاشفة، لذلك كان العلماء ذكروا أوجها للجمع بين الأحاديث، أحاديث النهي وكذلك أحاديث الأمر بالكتابة، فالنبي نهى ثم أمر، كيف نجمع بينهما؟ منهم من
  • قال أن ذلك من منسوخ السنة بالسنة، أي أنه نهى عن كتابة الحديث في أول الأمر خشية التباس القرآن بغيره، ثم بعد ذلك لما انتفت هذه العلة وهي خشية التباس القرآن بغيره أمر بالكتابة، ذكر ذلك ابن قتيبة والرامهرمزي وغيرهم، كذلك من أوجه الجمع بين هذه الأحاديث قالوا أن يكون النهي منصبا على كتابة القرآن مع غيره في صحيفة واحدة، وذهب إلى ذلك الخطيب البغدادي وغيره، وهذا لا شك أنه يؤيده ما ذكرناه سابقا مما ذكره زيد بن ثابت وكذلك جابر بن عبد الله أن الخشية في ذلك أن يكتب القرآن في صحيفة مع غيره فيختلط ويلتبس، يعني يختلط بالحديث القدسي أو ما هو من تفسير النبي صلى الله عليه وسلم، قيل كذلك أن النهي خاص بمن خشي منه الاتكال على الكتابة دون الحفظ، والإذن لمن أمن من ذلك، وذكر ذلك الخطيب في تقييد العلم ونقل أقوالا أخرى اقتصرنا على أشهرها وأجودها.
  • ثم نقول أن النهي عن كتابة الحديث قد جاء بحديث قد كُتِب، ومن التناقض أنهم استدلوا بالسنة المكتوبة على عدم كتابة السنة، وهم لا يقولون بحجية السنة والحديث، فكيف يستدل بحديث مكتوب على النهي عن الكتابة؟!! وكيف يستدل بالسنة المكتوبة على النهي على كتابة السنة ويكون ذلك حجة في عدم حجية السنة، لا شك أن هذا من الغرائب والعجائب في الاستدلال الذي أتى به هؤلاء الزنادقة، فالاستدلال بالنهي عن كتابة السنة على عدم الحجية هو استدلال بالمفهوم البعيد، وكذلك باللازم الذي لا يلزم، ونقول أنه في إزاء ذلك جاء منطوق بالأمر بالتحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، حتى في الحديث الذي نهى النبي عن الكتابة قال “وحدثوا عني ولا حرج” فأذن النبي صلى الله عليه وسلم بالحديث عنه، قال لا تكتبوا ولكن حدثوا، إذا حدثتم سوف تحفظون وإذا حفظتم سوف تنقلون هذه السنة، أما أحاديث الأمر بالكتابة ففيها كما سبق معنا منطوق حجية السنة وهي أكثر من عشرة أحاديث سبق إيراد بعضها، فهل يقول قائل أن الصحابة الذين كتبوا الصحف التي سبقت عصوا النبي صلى الله عليه وسلم بكتابتهم لهذه الصحف؟! هذا لا شك أن الجواب يكون بلا.
  • • ثم نقول لهم لو جاءت اليهود والنصارى لصاحب هذه الشبهة فقالوا له إن القرآن ليس بحجة، لأنه لم ينزل من السماء مكتوبا، ولو كان حجة لاهتم الشارع بأمره وأنزله مكتوبا كما أنزل التوراة والإنجيل مكتوبة، ماذا يكون جوابه؟ هل يصر على قوله ويقول أن الكتابة من لوازم الحجية؟ فإن قال لهم إن عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الخطأ والتبديل تغني عن نزوله مكتوبا، قالوا له إن موسى وعيسى عليهما السلام كانا معصومين مما ذكرت من الخطأ في التبليغ، ومع ذلك اهتم الشارع بكتابتهما فأنزلهما مكتوبين ماذا يقول؟ نقول نحن معاشر المسلمين كما أغنت العصمة في التبليغ عن نزول القرآن مكتوبا كذلك تغنينا عدالة الراوي وضبطه عن كتابة ما هو حجة كالسنة، إذا لابد لصاحب هذه الشبهة أن يعترف ويقر أن الكتابة ليست شرطا في الحجية وأن عدالة الرواة وحفظهم وكذلك ضبطهم لما يروونه من السنة يكفي في صيانة ما هو حجة.

نقف هنا سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.

▪▪▪يتبع بالجزء الثاني إن شاء الله تعالى▪▪▪

سراج الطريق

نحن نزاعٌ من القبائل حققوا البراءة من هذه الجاهلية النكراء … نحن الغرباء الذين تقلدوا لواء الإصلاح … بقايا الحنفاء من يُصلحون إذا فسد الناس … نحن القلة المستضعفة … القلة التي تفر بدينها … القلة السالكة المستوحشة … الحاملون لجراح أمتهم … سراج الظلم في تيه الجاهلية … الأمل في عود الضياء … عِصابة المسلمين وعصارة الموحدين في زمن أقفر ما بين لبنتيها من المسلمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى