بسم الله الرحمان الرحيم، الحَمْدُ لِلهِ وَكَفَى وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى الْمُصْطَفَى أَمَّا بَعْدُ :
أَيَّامٌ لَيْسَتْ كَبَاقِي الْأَيَّامِ… وَسَنَوَاتٌ لَيْسَتْ كَبَاقِي السَّنَوَات … وَلَحَظَاتٌ تَتْرُكُ فِي النَّفْسِ أَثَرًا وَبَصَمَات … وَمَحَطَّات تَحْفِرُ فِي شَخْصِكَ سُبُلَ الْقِمَمِ الْعَالِيَّات … اعْلَمْ يَا أَخِي أَنَّ الطَّرِيقَ لَا يُسْلَكُ إِلَّا بِالتَّجَرُّدِ وَالْيَقِينِ، حَتَّى لَا يَبْقَى فِي الْقَلْبِ إِلَّا رِضَى الله الْقَوِيّ الْمَتِين … حَتَّى يَتَجَرَّعَ الْقَلْبُ مَرَارَةَ الْمُفَاصَلَةِ وَيَطْرَحَ نِفَاقَ الْمُدَاهَنَة … فَيصفَى لَهُ الْإِخْلَاصُ لِلهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّار، وَيَجْنِي ثِمَارَهُ وَإِنْ طَالَتْ بِهِ السِّنِينُ وَتَنَاءَتْ بِهِ الدِّيَار . وَمَنْ أَرْضَى فِي دِينِهِ الْجَمَاعَاتِ وَالرِّجَال … أَذَلَّهُ اللهُ تَحْتَ أَقْدَامِهِمْ وَأَذَاقَهُ مِنْ بَأْسِهِمْ وَلأوَائِهِمْ … وَمَنْ فَاصَلَ فِي دِينِهِ الطُّغَاةَ وَالعُتَاة … أَعَزَّهُ اللهُ بِلَا عَشِيرَةٍ وَلَا مَال … وَمَنْ عَقَدَ الْمَسِير عَلَى الطَّرِيق وَحْدَهُ لَمْ يَصْرِفْهُ تَهَافُتُ الَّذِينَ تُكَذِّبُ أَفْعَالُهُمْ أقوَالهمْ … وَلَا يَضُرُّهُ تَلَوُّنُ أَصْحَاب الدَّعَاوَى الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَعِيشُوا بِلَا دِين، لِعَدَمِ قُدْرَتِهِمْ عَلَى تَحَمُّلِ تَبِعَاتِ وَأَعْبَاءِ هَذَا الدِّين … لَقَدْ أَكَلْنَا عَلَى هَامَاتِنَا فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ مِنْ كُلِّ أَنْوَاعِ الْمَطَارِق، وَنَزَلَتْ عَلَيْنَا بِقَسْوَتِهَا مِنْ كُلِّ حَدبٍ وَصَوْبٍ وَمِمَّنْ لَمْ نَكُنْ مِنْهُ عَلَى بَال .. كُلُّ ذَلِكَ لِتُرْشِدَنَا إِلَى حَقِيقَةِ الطَّرِيقِ وَمَعَادِنِ الرِّجَال …وَتَاللهِ لَنْ نَكُونَ مَطِيَّةً لِمَخْذُول، وَلَنْ نُرْضِيَ مُشْرِكًا فِي دِينِ اللهِ وَلَوْ قُطِعَ هَذَا الْحُلْقُوم . إِنَّهَا الطَّرِيقُ … كَسْرٌ أَوْ بَتْرٌ أَوْ قَتْلٌ أَوْ أَسْر … كَلِمَات كُنَّا نَسْمَعُهَا فِي بِدَايَةِ الطَّرِيقِ وَلَمْ نَكُنْ لنَفْهَمَهَا عَلَى تَأْوِيلِهَا وَحَقَائِقِهَا … تَبِعَاتٌ قَدْ لَا يَكْفِي الْحَمَاسُ الَّذِي يُصَاحِبُ الْبِدَايَةَ فِي تَحَمُّلِ تَكَالِيفِهَا وَأَعْبَائِهَا … إِنَّهَا الطَّرِيقُ … تَحْتَاجُ إِلَى العَقْدِ المَتِينِ وَالنَّفَسِ الطَّوِيلِ وَالْإِيمَانِ بِالْقَضِيَّةِ وَمَآلَاتِهَا … لِئَلَّا تَخُورَ الْقوَى فِي أَثْنَاءِ عَقَبَاتِهَا … إِنَّهَا الطَّرِيق … فَلَرُبَّمَا تَنْتَهِي بِكَ إِلَى وَرَاءِ الْقُضْبَانِ وَعَالِيَ الْجُدْرَان وَأَسَافِل الْبُنْيَانِ فِي مَقَابِرِ الْأَحْيَاءِ وَزَنَازِينِهَا … طَرِيقٌ قَدْ تَمْتَدُّ أَيَّامُهُ وَلَيَالِيه فِي ضِيقٍ وَشِدَّةٍ وَبَلَاء … وَكَرْبٍ … وَهَمٍّ… وَعَنَاء … أَيَّام … وَشُهُورٌ … وَأَعْوَام … تَطُولُ عَلَيْكَ وَتَمْضِي وَتَنْقَضِي … قَدْ يَضِيقُ الْقَيْدُ عَلَى الْمِعْصَمِ وَلَا تَدْرِي إِلَى أَيْنَ يَسِيرُ بِكَ وَيَمْضِي وَيَقْتَفِي … شَبَابٌ تَشِيبُ مِن الْهُمُومِ وَتَنْتَهِي … قُلُوبٌ تَذُوبُ مِنْ كَمَدِ الْقَهْرِ وَتَكْتَوِي … عُيُونٌ تَنَامُ عَلَى الذِّكْرَى وَتَفِيضُ مِن الْعَبَرَاتِ وَتَرْتَوِي … وَحَالُهُ فِي سِجْنِ غُرْبَتِهِ كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْآجُرِّي فِي كِتَابِهِ الْغُرَبَاء: “رَأَيْتُ مُنْذُ سِنِينَ كَثِيرَةٍ مَعَ عَجُوزٍ جَوْرَبَيْنِ أَبْيَضَيْنِ، أَخْبَرَتْنِي أَنَّ شَابًّا مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ مَحْبُوسٌ فِي الْمُطْبَقِ مَظْلُوم، وَأَنَّهُ نَسَجَ عَلَى خَصْرَيْهِمَا بَيْتَيْنِ مِنَ الشِّعْرِ فِي الْغُرَبَاءِ
عَلَى الْأَوَّلِ يقول:
” غريبٌ يُقَاسِي الْهَمَّ فِي أَرْضِ غُرْبَة
فَيَا رَبِّ قَرِّبْ دَارَ كُلِّ غَرِيب”
وَعَلَى الثَّانِي:
“وَأَنَا الْغَرِيبُ فَلَا أُلَامُ عَلَى الْبُكَا
إِنَّ الْبُكَا حَسَنٌ بِكُلِّ غَرِيبِ”
إِنَّهَا يَوْمِيَّاتُ أَسِير … بَيْنَ الْأَمَلِ بِحَيَاةٍ جَدِيدَةٍ مَوْهُوبَة، وَالرِّضَا بِقَدَرِ اللهِ وَقَضَائِهِ فِي أَيَّامٍ صَعْبَةٍ مَحْتُومَة … أَيَّامٌ تَتَثَاقَلُ عَلَى الْقُلُوبِ حَتَّى تُرْهِقَهَا، وَتَنْزِف لَهَا الْأَفْئِدَةُ حَتَّى تَتَفَطَّرَ نِيَاطُهَا … يَنَامُ عَلَى صُورَةِ القُضْبَان، وَيَسْتَيْقِظُ بِصَوْتِ فَتْحِ الزَّنَازِينِ عَلَى صُورَةِ السَّجَّان … يَعُدُّهُمْ كَمَا يَعُدُّ التَّاجِرُ سِلْعَتَهُ فِي الْمَسَاءِ وَفِي الصَّبَاح، وَيَقِفُونَ أَمَامَهُ دُونَ عَبَثٍ أَوْ لعِبٍ أَوْ صِيَاح …
نَظَرَاتُ ذَاكَ السَّجَّانِ تُشْعِرُهُ بِالْقَهْرِ الدَّفِين، لَكِنَّهُ مُرْتَفِعُ الهَام شَامِخُ الْجَبِين …
فَمَا يَلْبَثُ أَنْ يَقُولَ بِصَوْتِهِ الْمُتَخَافِتِ بَيْنَ ضُلُوعِهِ يُخَالِطُهُ الْأَنِين:
إِلَى اللهِ نَشُكُوا سِجْنًا غَرِيبًا دِيَاره … إِلَى اللهِ نَشْكُوا بُعْدَ الْحَبِيب وَفِرَاقَه … إِلَى اللهِ نَشَكُوا سَهْمًا لَئيمًا جِرَاحهُ … إِلَى اللهِ نَشْكُوا وَحْشًا دَفِينًا فِي الصَّدْرِ أزيزهُ .
يَقُولُونَ: ‘إِذَا رَأَيْتَ الأَسِيرَ نَائِمًا فَلَا تُوقِظهُ لَعَلَّهُ يَحْلُمُ بِالحُرِّيَّةِ’ … وَهَكَذَا حَالُهُمْ لمَّا يَجْتَمِعُونَ فِي الصَّبَاحِ حَوْلَ المُعَبِّر، كُلٌّ يَقُصُّ مَا رَآهُ فِي لَيْلَتِهِ مِنْ رُؤْيَاهُ وَيُعَبِّر … رُؤَى قَدْ تَرْسمُ فِي قَلْبِهِ أَمَلًا أَوْ تُشْعِلُ شَمْعَةً عَلَى عَلَم يَسِيرُ عَلَى إِثْرِهَا لَعَلَّهُ يُدْرِكُ أَوْ يَصِل … رُؤى قَدْ لَا يَفْهَمُهَا فِي حِينِهَا عَلَى وَجْهِهَا لَكِنَّهَا تُخْبِرُهُ عَنْ حَاضِرِهِ وَمُسْتَقْبَلِهِ بِإِشَارَات… سَيَجِدُهَا كَمَا رَآهَا وَرَاءَ الحَدِيدِ بِتِلكَ الأَمَارَات، كَمَا رَوَى مَالِك عَنْ هِشَام بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {لَهُم الْبُشْرَى فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَفِي الْأَخِرَةِ}، قَالَ:« هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ أَوْ تُرَى لَهُ».
“خَرَجْنَا مِنَ الدُنْيَا وَنَحْنُ مِنْ أَهْلِهَا
ولَسْنَا مِنَ الأَحْيَاءِ فِيهَا وَلَا الْمَوْتَى
إذَا دَخَلَ السَّجّانُ يَوْمًا لِحَاجَةٍ
عَجِبْنَا وَقُلْنَا: جَاءَ هَذَا مِنَ الدُنْيَا
وَنَفْرَحُ بِالرُؤْيَا فَجُلّ حَدِيثنَا
إِذَا نَحْنُ أَصْبَحْنَا الْحَدِيثَ عَنِ الرُّؤْيَا
إِنَّ السِّجْنَ مَدْرَسَةُ الصَّبْرِ وَالْيَقِين، وَهِيَ مُجْتَمَعٌ مُصَغَّرٌ تَرَى فِيهِ كُلَّ نَمَاذِج الرِّجَال وَالذُّكُورِ وَالذُّبَاب، فتضطرُّ إِلَى مُعَاشَرَةِ مَنْ لَا تُعَاشِرُهُ الخَنَازِيرُ وَالكِلَاب … تَرَى النِّفَاقَ فِي صُوَرٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَأَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ وَوُجُوهٍ مُتَنَكِّرَةٍ … تَرَى المَعَادِنَ الصّلْبَةَ وَالأَصِيلَة … وَتَرَى الْمَعَادِنَ الدَّنِيئَةَ وَالْخَسِيسَة … تَرَى مَنْ يَصْدَعُ بِمَا يَعْتَقِدُ وَيَدِين … وَيَصْبِرُ عَلَى الْهَجْرِ وَالْأَذَى وَيَثْبُتُ عَلَى ذَلِكَ رغمَ كُلِّ الضِّيقِ وَالْبَلَاءِ المُبين … وَتَرَى مَنْ يُبَدِّلُ دِينَهُ إِلَى دِينِ أَصْحَابِ الْكَثْرَةِ وَالشَّوْكَةِ وَيَكُونُ لَهُمْ رِدْءًا وَذَيْلًا وَعَوِين … تَرَى كَيْفَ يتركُ كُلُّ صَاحِب مِلَّةٍ وَنِحْلَةٍ فِي حَالِه … وَيَجْتَمِعُ عَلَيْكَ كُلّ هَؤُلَاءِ فِي المَكْرِ وَالهَجْرِ وَالْأَذَى بِكَمَالِه … قَالَ تَعَالَى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ(٨)} البروج.
قَدْ يَصِيرُ بِثَبَاتِكَ سِجْنا دَاخِلَ سَجْن، وَيَعْظُمُ البَلَاءُ وَيَشْتَدُّ بِمَا لَا يُطَاق … ثُمَّ تَرَى بَعْدَ الصِّدْق وَالصَّبْر الدَّائِرَةَ عَلَى أَهْلِ المَكْر وَالنِّفَاق … فَتَتَمَثَّلُ بِقَوْلِ بَعْضِ السَّلَفِ: “لَوْلَا الْبَلَاءُ لَشَكَكْنَا فِي صِحَّةِ الطَّرِيقِ”، فَتَعْلَمُ أَنَّكَ عَلَى صَحِيحِ السَّبِيل، وَأَنَّ اللهَ مَعَكَ عَلَى مَنْ عَادَاكَ لِدِينِكَ، وَتَرَى فِيهِم الآيَاتِ بِمَا يَشْفِي صَدْرَكَ وَتقرُّ بِهِ عَيْنُكَ … أَحْوَالٌ تَتَعَجَّبُ لِسَرْدِهَا وَوَقَائِعهَا، وَتَبْقَى فِي ذُهُولٍ لِعَوَاقِبِهَا وَدَوَائِرِهَا، تَزِيدُكَ ثَبَاتًا عَلَى الْحَقِّ وَرُسُوخًا عَلَيْه، وَفِي ظِلِّ مَا يَعِيشُهُ الْغَرِيبُ فِي هَذِهِ الزَّنَازِينِ مِنْ صِرَاعٍ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِل، الصِرَاعُ الذِي يُلَازِمُ كُلَّ صَادِع بِالْحَقِّ ثَابِتٍ عَلَيْهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ … أَذًى مُتَرَاكِمٌ وَصَبْرٌ مُتَلَازِم … أَحْوَالٌ وَمَوَاقِف تَصْنَعُ مِنْكَ رَجُلًا لَا كَبَقِيَّةِ الرِّجَال، تَعْمَلُ فِي عَمِيقِ الْفُؤَادِ فَتَصْنَعُ قَلْبًا قَوِيًّا فِي ذَاتِ اللهِ عَلَى قَامَاتِ الجِبَال … قَلْبٌ يَتَحَمَّلُ التَّبِعَات، وَيَثْبُتُ فِي الْمُلِمَّات …
“أَسْرَى أَشَدُّ مِنَ الجِبَالِ قُلُوبُهُمْ
وَعَزِيمَةٌ أَقْسَى مِنَ القَيْدِ الحَدِيد
وَيَقِينُهُمْ بِاللهِ لَمْ يَتَزَلْزَل
يعضُ مِنْ أَيْدٍ تُشَدُّ وَأَرْجُل”
وَفِي أَطْرَافِ ذَاكَ الصِّرَاعِ، وَلَمَّا يَضَعُ الْمُبْتَلَى رَأْسَهُ عَلَى فِرَاشِهِ يَبْغِي الخَلَاصَ مِنْ وَاقِعِهِ المَرِير … يَفِرُّ إِلَى النَّوْمِ مِن النَّظَرِ إِلَى أَوْجُهِ المُشْرِكِ وَالحَقِير، عِنْدَمَا يَسْتَلْقِي بِهُمُومِهِ وَيَخْتَلِي بِأَحْزَانِه … عِنْدَئِذٍ يَتَوَسَّدُ أَحْلَامَهُ وَأَيَّامَه …
وَتَعُودُ بِهِ عَجَلَةُ الذِّكْرَى إِلَى الوَرَاء، بِكُلِّ مَا تَحْمِلُهُ مِن أَفْرَاحٍ وَأَحْزَانٍ وَأَقْرَاح … وَتَتَكَرَّرُ عَلَى خَوَاطِرِهِ صَفَحَاتُ أَيَّامِ الحَبِيبِ البَعِيد … فَتَنْفُذُ فِي عَمِيقِ الجِرَاح … فَيَتَقَلَّبُ بَيْنَ نَارِ الشَّوْقِ وَأَمَلِ اللِّقَاء … وَيَقُولُ مُتَمَثِّلًا هَذِهِ الْأَبْيَات:
تَبْكِي العُيُونُ لِبُعْدِكِ تَتَأَلَّمُ
تَرْجُوا الإينَاسَ فِي قُرْبِك تَتَوَسَّمُ
يَا غَيْبَةً طَالَتْ وَطَالَ فِرَاقُهَا
لِحَبِيبَةٍ قَلْبِي أَسِيرُ ودَادِهَا
يَا صَبَرُ إِنِّي صَابِرٌ أَتَحَسَّبُ
أَرْجُوا الثَّوَابَ لِوَصْلِهَا أَتَرَقَّبُ
يَا شَوْقُ لَا تَقْسُوا عَلَيّ وَتَذْهَب
فِي هيَامِهَا حَتَّى الصَّبَابَة تَشْرَبُ
يَا رَبِيع عُمْرِي وَزَهْرَة تَتَرَبَّعُ
فِي عَرْشِ قَلْبِي لِفَقْدِهَا يَتَوَجَّعُ
يَا رَبّ فَاجْمَعْ بَيْنَنَا مُتَعَجِّلًا
فِي فَكِّ قَيْدٍ دَاعِيًا مُتَوَسِّلًا”
وَاجْمَعْ قُلُوبًا مِنَ الجِرَاحِ تضمّدُ
وَاشْرَحْ قُلُوبَ الْمُبْتَلِينَ فَتَسْعَدُ
يَا رَبِّ فِيكَ الرَّجَا وَرَحْمَةً تَتَنَزَّلُ
عَلَى عَزِيزٍ مِن ذُلِّ قَيْدٍ يَتَنَصَّلُ
لَوْلَا اليَقِينُ بِالله، وَاحْتِسَابُ الأَجْرِ لِله، وَانْتِظَار الفَرْج مِنَ الله، لِتَفَطَّرَتْ قُلُوبُهُمْ مِنَ الْوَجْد … وَتَبْقَى سَلْوَتُهُمْ هِيَ الثَّبَاتُ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيم، وَيُخَفِّفُ مَابِهِم الخَلْوَةُ وَالمُناجَاةُ لِرَبِّهِمْ فِي الأَسْحَارِ، وَيَرْبِطُ عَلَى قُلُوبِهِمْ تِلَاوَةُ كِتَابِ رَبِّهِمْ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَاف النَّهَارِ … هُنَالِكَ يَفْتَحُ اللهُ عَلَى الصَّادِقِ مِن الْفَهْمِ لِكَلَامِه مَالَمْ يرْزَقْهُ فِي حَالِ العَافِيَةِ وَالرَّخَاء، هُنَالِكَ يَعِيشُ بَيْنَ الآيَاتِ، وَيَرَى وَاقِعَهُ وَصِرَاعهُ مَعَ أَهْلِ البَاطِلِ فِي تِلكَ الوَقَائِعِ وَالأَحْدَاثِ وَالمُجْرَيَات … إِنَّ الأسْرَ شَدِيدٌ وَهُوَ قَهْرٌ مُتَوَاصِلٌ يَفتُّ مِنْ عَزْمِ الْحَدِيد، وَتَلِينُ مَعَهُ طِبَاعُ العَنِيد … إِنَّهُ غَابَةٌ بَيْنَ وُحُوشٍ ضَارِيَة، يَعْلُو فِيهَا صَوْتُ الْقُوَّة الضَّارِبَة … إِنَّهُ تَكَتُّلَاتٌ وَتَحَزُّبَات كُلٌ لِجَمَاعَتِهِ وَمَقَالَتِه، وَسِجَالَاتٌ تَنْتَهِي بِتَعَصُّبِ كُلِّ فَرِيقٍ لِحِزْبِهِ وَمَشَايِخِه … وَتَرَى الْحَقَّ فِي غَالِبِ أَمْرِهِ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَف، لَكِنَّهُ عَزِيزٌ عَلَى الْبَاطِلِ يُرْمَى بِالْغُلُوِّ وَالتَّطَرُّف … وَتَرَى أَهْلَهُ فِي عُزْلَةٍ وَغُرْبَةٍ بَيْنَ جُمُوعِ الْمُشْرِكِين، وَعُبَّادِ الرِّجَالِ وَأَصْحَابِ الْعُقُولِ الْمُسْتَرِيحَةِ مِن الْمُعْرِضِينَ .
مَا دَفَعَنِي لِكِتَابَةِ هَذِهِ الْكَلِمَات هُوَ حَالُ إِخْوَانِنَا فِي سُجُونِ الْمَلَاحِدَةِ وَمَا يُعَانُونَ مِن الكَرْبِ وَالبَلَاء … مَالا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ الْعَلِيمُ الْخَبِير … سُجُونٌ لَيْسَتْ كَالسُّجُون لَا تَصْلُحُ مَرَاتِع لِلبِغَالِ أَو الحَمِير … تَاللهِ إِنَّ المَوْتَ أَلْف مَرَّةٍ أَهْوَنُ مِن المقَامِ فِيهَا القَدْرَ اليَسِير … فَكَيْفَ بِالسِّنِين المُتَوَالِيَةِ وَالْأَعْمَارِ المُتَفَانِيَةِ فِي قَبْرٍ ضَيِّقٍ وَذلٍّ مَرِير … قَدْ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الزَّوْجِ وَالْوَلَد، فَلَا وِصَالَ وَلَا خَبَرَ يُبْرِدُ مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ كَمَد، نَار تَكْوِي وَتَلْسَع، وَلَا بَردَ أَوْ خَمد أَوْ مَنْ يُخَفِّفُ الكَرْبَ العَسِير، أَرْبَعُ سَنَوَاتٍ تَمُرُّ وَلَا يَدْرِي إِلَى أَيْنَ الْمَصِير … قُلُوبٌ تَئِنُّ مِن الفَقْدِ الوَجِيعِ وَقَهْرِ العِدَا وَشَمات الحَقِير … لَا دَارَ تُرِيدُ مَقَامَهُمْ بَيْنَهَا فَتُرِكُوا لِعِصَابَة تَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَاب كَوَهْجِ السَّعِير …
قَدْ يَكُونُ الثَّمَنُ غَالِي وَالبَذْلُ كَبِير وَلَكِنَّ العِوَضَ لَا يُقَدَّرُ بِثَمَن وَلَا يُسَاوَمُ بِبَذْل، إِنَّهُ النَّجَاةُ فِي الدُّنْيَا مِنْ طُرُقِ الضَّلَالَةِ وَالغِوَايَةِ وَفِي الآخِرَةِ مِنْ نَارٍ حَرُّهَا شَدِيد وَقَعْرُهَا بَعِيد، فَإِنَّ حَقِيقَةَ هَذَا الدِّينِ الْعَظِيمِ فِي زَمَنِ الْفِتَنِ وَالْمِحَنِ لَا تَنْكَشِفُ فِي جَلَاءٍ وَوُضُوحٍ إِلَّا لِمَنْ تَحَرَّكَ بِهَذَا الدِّين، فَالذِينَ يَخْرُجُونَ إِلَى المُنَاجَزَةِ هُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِفِقْهِهِ وَدِرَايَتِه، وَالذِينَ يَعْمَلُونَ عَلَى تَقْرِيرِهِ فِي وَاقِعِ النَّاسِ وَتَغْلِيبِهِ عَلَى الْجَاهِلِيَّةِ هُم الذِينَ تَتَبَيَّنُ لَهُمْ حَقِيقَتُهُ أَثْنَاءَ المُدَافَعَة، قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍۢ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِى ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾[التَّوْبَة ١٢٢]، قَالَ الحَسَنُ:
“لِيَتَفَقَّهَ الذِينَ خَرَجُوا، بِمَا يُرِيهِمُ اللهُ مِنَ الظُّهُورِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَالنُّصْرَةِ، وَيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ”
وَقَالَ تَعَالَى:﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾[العنكبوت ٦٩]، قَالَ أَبُو جَعْفَر: “﴿لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ يَقُولُ: لَنُوَفِّقَنَّهُمْ لِإِصَابَةِ الطَّرِيقِ المُسْتَقِيمَةِ، وَذَلِكَ إِصَابَةُ دِينِ اللهِ الذِي هُوَ الْإِسْلَامُ الذِي بعَثَ اللهُ بِهِ مُحَمَّدا ﷺ”
قَدْ يَكُونُ هَذَا الأَذَى المُتَرَاكِمُ ضَرِيبَةً لِتَشَرُّب حَقَائِقَ لَمْ يَكُنْ لِيعَرِفَهَا لَوْ جَلَسَ مَعَ أُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيه … سَيَنْتَهِي كُلّ شَيْءٍ وَيَنْقَضِي الأَلَم … وَيَبْقَى اليَقِينُ رَاسِخًا، وَالطَّرِيقُ وَاضِحًا، وَعِنْدَ اللهِ تَجْتَمِعُ الخُصُوم .
“فَحَقِيقَةُ الدِّينِ الصَحِيحِ لا تَنْجَلٍي
لِقَاعدٍ مُتَخلِّفٍ كَسلانِ
لكِنهَا تَجْلُو لِصاحِبِ هِمَّةٍ
مُدَافِعٍ بِالحقِّ ذَا البُطلانِ
النَافِريِنَ البَاذِلِينَ لِدينِهِم
العَاِملِيِنَ بِه عَلى الَميدَانِ
فَهُم الذِينَ تُفتَّحُ أبصَارُهُم
لا النَّائِمينَ عَلى ثَرى النِّسوانِ”
وَآخِرُ دَعْوَانا أَن الحَمْدُ لِله رَبِّ العَالَمِينَ .