بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ أَمَّا بَعْدُ …
فَلَا يَزَالُ حَدِيثُنَا فِي رُكْنِ البَرَاءَةِ مِنَ الشِّرْكِ وَالأَقْوَامِ المُشْرِكَةِ، ذَكَرْنَا فِي آخِرِ مَجْلِسٍ حَدَّ الظَّاهِرِ المُعْتَبَر فِي الحُكْمِ بِالإِسْلَامِ فِي دِيَارِ الكُفْرِ
- فنَقُولُ: أَنَّ مَنْهَجَ القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فِي هَذَا البَابِ هُوَ: نِسْبَةُ العَيْنِ إِلَى القَوْمِ، إِلَّا مَنْ أَظْهَرَت المُخَالَفَة لِقَوْمِهَا فَيُحْكَمُ عَلَيْهَا بِمُقْتَضَى هَذَا الظَّاهِرِ، وَالمَوْلَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَفَّرَ الأَقْوَام الظَّالِمَة المُكَذِّبَة بِالعُمُومِ، وَاسْتَثْنَى أَتْبَاع الرُّسُلِ لِمُخَالَفَتِهِمْ مَا عَلَيْهِم الأَقْوَامُ الكَافِرَة مِنْ كُفْرٍ وَشِرْكٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ المَلَأُ الذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَن آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّنْ رَّبِّهِ ۚ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥)} الأَعراف، فَهَذَا فِيهِ إِظْهَار المُخَالَفَةِ لِلقَوْمِ المُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِمْ: {قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ}، وَكَذَلِكَ قَوْلهُ تَبَارَكَ وَتعَالَى: {وَجَاءَ مِن أَقْصَى المَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١)} يَس، رَجُلٌ جَاءَ يُذَكِّرُ قَوْمَهُ بِاتِّبَاعِ المُرْسَلِينَ فَأَظْهَرَ خِلَافَ مَا عَلَيْهِ الأقْوَامُ مِنَ الكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ لِلأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ، وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَٰفِرِينَ} [النَّمْلِ ٤٣]، فَنُسِبَتْ إِلَى قَوْمِهَا، كَذَلِكَ جَاءَ فِي السُّنَّةِ فِي مَوَاضِع نِسْبَة العَيْنِ إِلَى القَوْمِ، فَالعَيْن إِنَّمَا تُنْسَبُ إِلَى دِينِ قَوْمِهَا، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “إِنَّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لَقِيَ رَكْبًا بِالرَّوْحَاءِ فَقَالَ: مَن القَوْمُ؟ قَالُوا: المُسْلِمُونَ، فَقَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: رَسُولُ اللهِ، فَرَفَعَت إِلَيْهِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا، فَقَالَتْ: أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: نَعَمْ وَلَكِ أَجَرٌ” رَوَاه مُسْلِم، وَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ هَذَا الحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَ رَكْبًا بِالرَّوْحَاءِ فَسَأَلَهُمْ مَن القَوْم؟ فَلَمَّا انْتَسَبُوا إِلَى القَوْمِ المُسْلِمِينَ أَلْحَقَهُمْ بِهِمْ .
وَكَذَلِكَ حَدِيثُ الصَّعْبِ بْن جثَّامَةَ – رَضي اللهُ عنْهُ – قَالَ: “مَرَّ بِي النَّبِيُّ – صلَى اللهُ عَلَيهِ وسَلَم – بِالأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ وَسُئِلَ عَنْ أَهْلِ الدَّارِ يُبَيَّتُونَ مِنَ المُشْرِكِينَ فَيُصَابُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيهِمْ قَالَ: «هُمْ مِنْهُمْ»” رَوَاهُ البُخَارِيّ، يعني أَلْحَقَ النِّسَاءَ وَالذَّرَارِي بِالقَوْمِ، كَذَلِكَ حَدِيثُ سَمُرة بْن جُنْدُبٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: “مَنْ جَامَعَ المُشْرِك وَسَكَنَ مَعَهُ فَإِنَّهُ مِثْلُهُ” سُنَن أَبي دَاوُد، أَيْ: يُلْحَقُ بِهِ، كَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مَسْعُود مَرْفُوعًا قَالَ: “مَنْ كَثَّرَ سَوَادَ قَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ، وَمَنْ رَضِيَ عَمَل قَوْمٍ كَانَ شَرِيكَ من عَمِلَ بِهِ”
فَتح البَارِي، فَنَقُولُ: أَنَّهُ يُنْسَبُ مَنْ كَانَ بَيْنَ قَوْمٍ كُفَّار إِلَى قَوْمِهِ ظَاهِرًا، وَلَوْ كَانَ مُسْتَخْفٍ بِالإِيمَانِ، إِلَّا مَنْ أَظْهَرَ المُخَالَفَةَ لِقَوْمِهِ فَيُعْطَى حُكْم هَذَا الظَّاهِرِ الذِي أَظْهَرَهُ، وَكَذَلِكَ فِي المُقَابِلِ يُنْسَبُ مَنْ كَانَ بَيْنَ قَوْمٍ مُسْلِمِينَ إِلَى الإِسْلَامِ فِي دَارِ الإِسْلَامِ ظَاهِرًا، وَلَوْ كَانَ مِنَ المُنَافِقِينَ المُسْتَخْفِينَ بِالكُفْرِ المُظْهِرِينَ لِلإِسْلَامِ جُمْلَةً أَوْ تقيةً كَمَا هُو حَالُ أَهْلِ النِّفَاقِ، يَقُولُ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ قَالَ: “لَمَّا ارْتَدَّ أَهْلُ اليَمَامَةِ عَنِ الإِسْلَامِ غَيْر ثُمَامَةَ بْن أَثَالٍ، وَمَن تَبِعَهُ مِنْ قَوْمِهِ فَكَانَ مُقِيمًا بِاليَمَامَةِ يَنْهَاهُمْ عَن اتِّبَاعِ مُسَيْلِمَةَ وَتَصْدِيقِهِ، وَيَقُولُ: “إِيَّاكُمْ وَأَمْرًا مُظْلِمًا لَانُورَ فِيهِ، وإنَّهُ لَشَقَاء كَتَبَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مَنْ أَخَذَ بِهِ مِنْكُمْ، وَبَلَاءٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَأْخُذْ بِهِ مِنْكُمْ يَا بَنِي حَنِيفَةَ، فَلَمَّا عَصَوْهُ وَأَصْفقُوا عَلَى اتِّبَاعِ مُسَيْلمَةَ عَزَمَ عَلَى مُفَارَقَتِهِمْ” الِاسْتِيعاب فِي مُفَارقَة الأصْحَاب، هَذَا هُوَ إِظْهَارُ الدِّينِ ومُسَمَّى إِظْهَارِه، كَمَا وَرَدَ فِي هَذَا الأَثَر مِن أَثَرِ ثمَامة، حَيْثُ أَنَّ ثُمَامة أَظْهَرَ خِلَافَ مَا عَلَيْهِ قَوْمُ مُسَيْلِمَة، فَقَالَ: “فَكَانَ مُقِيمًا بِالْيَمَامَةِ يَنْهَاهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ مُسَيْلِمَةَ وَتَصْدِيقِهِ وَيَقُولُ: “إِيَّاكُمْ وَأَمْرًا مُظْلِمًا لَانُورَ فِيهِ”، فَثُمَامَةُ أَظْهَرَ إِسْلَامَهُ بَيْنَ قَوْمِهِ -أَهْل اليَمَامَةِ- فَيُعْطَى حُكْمًا مُخَالِفًا لِحُكْمِ أَهْلِ اليَمَامَةِ .
- نَقُولُ: أنَّ تَكْفِيرَ النَّاسِ بِالعُمُومِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى مُقْتَضَى ظَاهِرِ النَّاسِ، أَمَّا البَوَاطِنُ فَلَا حُكْمَ يَلْحَقُ البَاطِنَ، فَنَحْنُ لانُكَفِّرُ النَّاس ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فِي عُمُومِ الدِّيَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ… فَهَذَا لَا سَبِيلَ لِلْوُصُولِ إِلَيْهِ إِلَّا بِالِاسْتِقْرَاءِ التَّامِّ وَذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ، وَلَسْنَا نَقُولُ: أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ فِي الدِّيَارِ هُمْ كُفَّارٌ ظَاهِرًا وباطنا بِأَعْيَانِهِمْ، فَهَذَا لَا شَكَّ أَنَّهُ قَوْلٌ فَاسِدٌ، لِأَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ فِي الدِّيَارِ قِلَّة مُسْلِمَة مُسْتَخْفِيَة بِهَذَا الدِّينِ، كَمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيث مِنْ أَحَادِيثِ ثَوْبَانَ كَمَا سَبَقَ مَعَنَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَليْه وسَلَّمَ: “لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِن أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الحقِّ لَا يضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلهُمْ حَتَّى يَأْتِي أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ” رَوَاهُ مُسْلِم، ونَحْنُ لَا نَنْظُرُ فِي بَوَاطِنِ النَّاسِ، لِأَنَّ البَاطِنَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ فِي الدُّنْيَا، فَالبَوَاطِنُ إِنَّمَا هِيَ مَحَلّ الأَحْكَامِ يَوْمَ القِيَامَةِ، يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ، وهُنَاكَ المَوْلَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُحَاسِبُهُمْ عَلَى ظَوَاهِرِهِمْ وَبَوَاطِنِهِمْ، أَمَّا المُكَلَّفُ فَإِنَّمَا أُمِرَ بِالنَّظَرِ فِي ظَاهِرِ النَّاسِ وَالحُكْمِ عَلَيْهِمْ، أَمَّا البَوَاطِنُ فَهَذَا لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى بَاطِنِ النَّاسِ، لِذَلِكَ نَقُولُ: أَنَّ مَنْشَأَ الِاشْتِبَاهِ عِنْدَ مَنْ يَحْكُمُ بِالشَّعَائِرِ هُوَ: اشْتِبَاهُ أَحْكَامِ الكُفْرِ فِي الدُّنْيَا بِأَحْكَامِ الكُفْرِ في الآخِرَةِ، فَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ هَذَا المُسْتَخْفِي بِدِينِهِ لَمَّا كَانَ مُسْلِمًا فِي حَقِيقَةِ أَمْرِهِ فَهُوَ كَذَلِكَ مُسْلِمٌ ظَاهِرًا، وَلَمَّا كَانَ نَاجٍ يَوْمَ القِيَامَةِ كَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا لَهُ حُكْمُ الآخِرَةِ، وَهَذَا لَا شَكَّ أَنَّهُ غَلَطٌ، لِأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى رَتَّبَ أَحْكَامًا فِي الدُّنْيَا عَلَى ظَاهِرِ النَّاسِ، ثُمَّ الآخِرَة لَهَا أَحْكَامٌ مُغَايرَةٌ لِأَحْكَامِ الدُّنْيَا، لِذَلِكَ مِنْ مَقَالَةِ أَهْلِ الكُفْرِ فِي الْآخِرَةِ: {وقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَىٰ رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الأَشْرَارِ (٦٢)} ص، فَلِذَلِكَ يَنْبَغِي عَلَى المُسْلِمِ أَنْ يَنْتَبِهَ لِهَذَا وَأَنْ يُمَيِّزَ بَيْنَ أَحْكَامِ الظَّاهِرِ التِي أُمِرَ بِالنَّظَرِ فِيهَا وَالحُكْمِ بِاعْتِبَارِهَا، وبَيْنَ أَحْكَامِ البَاطِنِ التِي مَحلُّهَا الآخِرَة، وَلَا يُحَاسِب النَّاس عَلَى مُقْتَضَى بَوَاطِنِهِمْ، إلَّا إِذَا ظَهَرَ هَذَا البَاطِنُ وَأَظْهَرَهُ صَاحِبُهُ وَاسْتَعْلَن بِهِ، هُنَالِكَ يَصِيرُ هَذَا البَاطِنُ ظَاهِرًا، فَيَكُونُ عَلَى مُقْتَضَاهُ الحُكْمُ كُفْرًا أَوْ إِيمَانًا، يَقُولُ حَمَدُ بْنُ عَتِيقٍ: “وَمَن له مشاركة فِيمَا قرَّرَه المُحقِّقُونَ قَد اطَّلَعَ عَلَى أَنَّ البَلَدَ إِذَا ظَهَرَ فِيهَا الشِّرْكُ، وَأُعْلِنَتْ فِيهَا المُحَرَّمَاتُ، وَعُطِّلَتْ فِيهَا مَعَالِمُ الدِّينِ، أَنَّهَا تَكُونُ بِلَادَ كُفْرٍ، تُغْنَمُ أَمْوَالُ أَهْلِهَا، وَتُسْتَبَاحُ دِمَاؤُهُمْ، وَقَدْ زَادَ أَهْلُ هَذِهِ البَلَدِ، بِإِظْهَارِ المَسَبَّةِ لِلهِ وَلِدِينِهِ، وَوَضَعُوا قَوَانِينَ يُنفِّذُونَهَا فِي الرَّعِيَّةِ، مُخَالِفَة لِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ هَذِهِ كَافِيَة وَحْدَهَا، فِي إِخْرَاجِ مَنْ أَتَى بِهَا مِن الإِسْلَامِ . هَذَا وَنَحْنُ نَقُولُ: قَدْ يُوجَدُ فِيهَا مَن لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ فِي البَاطِنِ مِنْ مُسْتَضْعَفٍ وَنَحْوِهِ، وَأَمَّا فِي الظَّاهِرِ فَالْأَمْرُ وَلِلهِ الحَمْدُ وَاضِحٌ، وَيَكْفِيكَ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَهْلِ مَكَّةَ، مَعَ أَنَّ فِيهِمْ مُسْتَضْعَفِينَ،
وَكَذَلِكَ مَا فَعَلَهُ أَصْحَابُهُ بِكَثِيرٍ مِمَّن ارْتَدَّ عَن الإِسْلَامِ، مِن اسْتِبَاحَةِ الدَّمِ وَالمَالِ وَالعِرْضِ، وَكُلُّ عَاقِلٍ وَعَالِمٍ يَعْلَمُ أَنَّ مَا أَتَى بِهِ هَؤُلَاءِ مِن الكُفْرِ وَالرِّدَّةِ أَقْبَحُ وَأَفْحَشُ وَأَكْثَرُ مِمَّا فَعَلَهُ أُولَئِكَ” الدُّرَرُ السَّنِيَّة، فَتَوْصِيفُ ابْن عَتِيقٍ لِتِلْكَ الدِّيَارِ تَوْصِيفٌ دَقِيقٌ، بَلْ نَقُولُ: أنَّ الدِّيَارَ فِي هَذَا الزَّمَنِ قَدْ أَتَتْ فِيها مِن المُكَفِّرَاتِ، وَمِن الشِّرْكِ بِاللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَصُنُوفِهِ الشَّيْء الكَثِير مِمَّا لَمْ يَذْكُرْهُ حَمَدُ بْنُ عَتِيقٍ فِي هَذِهِ الفَتْوَى .
- فَنَقُولُ: أَنَّ مَنْهَجَ القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ كَمَا سَبَقَ مَعَنَا هوَ: اسْتِصْحَابُ الأَصْلِ فِي القَوْمِ حُكْمًا عَلَى عُمُومِ الدِّيَارِ كَمَا سَبَقَ مَعَنَا تَأْصِيلُ الإِسْلَامِ فِي دَارِ الإسْلَامِ وَالكُفْر فِي دَارِ الكُفْرِ، أَمَّا الأعيَان فَيَجْرِي عَلَيْهِمْ هَذَا الحُكْمُ المُسْتَصْحَبُ، وَهَذِهِ القَاعِدَةُ المُسْتَمِرَّةُ وَهِيَ: أَنَّهُ يُلْحَقُ بِقَوْمِهِ إِلَّا مَنْ خَالَفَ دِينَ قَوْمِهِ بِإِظْهَارِ خِلَافِ مَا أَظْهَرَهُ القَوْمُ مِنْ إِيمَانٍ أَوْ كُفْرٍ، وَهَذَا هُوَ صَوَابُ النَّظَرِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، أَنْ يَنْظُرَ ابْتِدَاءً فِي القَوْمِ ثُمَّ يَحْكُمُ عَلَيْهِمْ حُكْمًا، حَيْثُ أَنَّ الْمُسْلِمَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ الْكَافِرِينَ، وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْمُسْلِمِينَ وَالْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، وَقَدْ سَبَقَ مَعَنَا ذِكْرُ الْجَاهِلِيَّةِ وَأوصافهَا وأَوْضاعها، وَكَذَلِكَ الإِسْلَامُ ووصفهُ وَأَوْضاعهُ، فَالْمُسْلِمُ بِهَذَا إِنَّمَا يتَقَرَّرُ عِنْدَهُ حَدُّ الْمُسْلِمِينَ مَعَ حَدِّ الْكَافِرِينَ، فَيَنْظُر فِي القَوْمِ ابْتِدَاءً فَيُجْرِي هَذَا الحُكْم عَلَى عُمُومِ القَوْمِ إِلَّا مَنْ أَظْهَرَ مُخَالَفَةَ القَوْمِ، فَهَذَا يُعْطَى الْحُكْمَ الذِي أَظْهَرَهُ، وَهَذَا هُوَ النَّظَرُ الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى خِلَافًا لِلمُجَادِلِينَ عَن المُشْرِكِينَ، الذِينَ يَبْغُونَهَا عِوَجًا، حَيْثُ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ أَهْلَ دِيَارِ الكُفْرِ فِي هَذَا الزَّمَانِ مُسْلِمِينَ بِالتَّوَارُثِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَطْلُبُونَ اليَقِينَ فِي كُفْرِ العَيْنِ مِنْهُمْ، أَوْ مَنْ يَحْكُمُ بِالشَّعَائِرِ عَلَى جَمَاهِيرِ أَهْلِ الشِّرْكِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، الذِينَ نَقَضُوا الإِسْلَامَ فِي الحُكْمِ وَالتَّشْرِيعِ، وَفِي الطَّاعة، وَالعِبَادَةِ، وَهَذَا لَا شَكَّ أَنَّهُ فِي مِيزَانِ العِلْمِ أَعْوَجُ وَأَشْنَعُ، فَإِنَّهَا لَا تَتَخَرَّجُ عَلَى أَصْلٍ صَحِيحٍ سَلِيمٍ، إِذْ كَيْفَ بِالشَّعِيرَةِ التِي هِي مِنْ فُرُوعِ الإِسْلَامِ تُصَحِّحُ إسْلامَ مَنْ لَا أَصْلَ لَهُ، يَقُولُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (١٠٣) الذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (١٠٤) أُولَٰئِكَ الذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَزْنًا (١٠٥)} الكهف، وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا (٢٣)} الفرقان، وبِالتَّالِي الذِينَ يُؤَسْلِمُونَ مَجْهُول الحَالِ فِي دِيَارِ الكُفْرِ، هَؤُلَاءِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا مُبِينًا، حَيْثُ أَنَّهُمْ يُوَسِّعُونَ دَائِرَةَ الجَهَالَةِ وَيُحَمِّلُونَ مَجْهُولَ الحَالِ مَا لَا يَتَحَمَّلُهُ هَذَا الِاصْطِلَاحُ عِنْدَ الفُقَهَاءِ، فَالفُقَهَاءُ يَذْكُرُونَ فِي مَجْهُولِ الحَالِ بَعْضَ الصُّوَرِ المَعْدُودَةِ – كَالمَيِّتِ الذِي لَا يُعْرفُ لَهُ نَسَبٌ فِي دَارٍ وَلَيْسَ لَهُ أَهْلٌ، فَهَذَا يُنْظَرُ فِيهِ بِاعْتِبَارِ عَلَامَاتِ الإِسْلَامِ وَعَلَامَاتِ الكُفْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ..
أَو المَجْنُون، أَوْ اللَّقِيطُ الذِي لَيْسَ لَهُ أَبَوَانِ يُلْحَقُ بِهِمَا، هَذِهِ الصُّوَرُ التِي يَذْكُرُهَا الفُقَهَاءُ فِي مَجْهُولِ الحَالِ، أَمَّا هَؤُلَاءِ فَأَخَذُوا هَذَا المُصْطَلَحَ: -مَجْهُول الحَالِ، وَمَجْهُول الدِّينِ- ثُمَّ أَدْخَلُوا فِيهِ الكَثْرَةَ المُشْرِكَةَ فِي هَذَا الزَّمَانِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَخْتَلِفُونَ عَلَيْهِ اختِلَافًا كَثِيرًا، وَغَالِبًا تُؤَدِّيهِمْ أُصُولُهُمُ الفَاسِدَةُ إِلَى النَّظَرِ فِي هَذَا المَجْهُولِ، ثُمَّ إِعْطَائِهِ حُكْمَ الإِسْلَامِ، حَيْثُ أَنَّهُمْ يَغَلِّبُونَ حُكْمَ الإِسْلَامِ عَلَى حُكْمِ الكُفْرِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: أَنَنَّا مَاكَفَّرْنَا هَذِهِ الأَقْوَامَ بِالتَّبَعِيَّةِ كَمَا يَظُنُّ البَعْضُ، أَو
كَفَّرْنَاهَا بِالظَّنِّ كَمَا يَعْتَقِدُ أَهْلُ الظَّنِّ وَالتَّخْمِينِ، بَلْ نَحْنُ كَفَّرْنَاهَا بِمَنَاطَاتِ كُفْرٍ صَحِيحَةٍ، قَطْعِيَّةٍ، يَقِينِيَّةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى .
- فَنَقُولُ: أَنَّ هَؤُلَاءِ الذِينَ يُؤَصِّلُونَ لِمَجْهُولِ الحَالِ قَدْ حَادُوا عَن الجَادَّةِ، وَانْحَرَفُوا عَنِ الأُصُولِ الصَّحِيحَةِ، فَنَقُولُ: أَنَّ الشَّرْعَ لَا يَأْتِي بمِثْلِ هَذِهِ الجَهَالَةِ الوَاسِعَةِ فِي الكَثْرَةِ الْكَاثِرَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي دِيَارِ النَّاسِ، لِأَنَّ أَسْمَاءَ الدِّينِ وَأَحْكَامَهُمْ هِيَ مِنْ أَظْهَرِ المَسَائِل إِنْ شَاءَ اللهُ فِي دِينِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَنَقُولُ: أَنَّ مَجْهُول الحَالِ فِي حَقِيقَةِ أَمْرِهِ لَا وُجُود لهُ فِي وَاقِعِ النَّاسِ وَفِي حَقِيقَةِ الأَمْرِ، إِلَّا فِي أَذْهَانِ هَؤُلَاءِ التَّائِهِينَ، وَهُمْ أَهْلُ الجَهْلِ بِهِ، وَهُوَ مِنَ المُخَلَّفَاتِ وَالرَّوَاسِبِ التِي خَلَّفَهَا النَّظَرُ وَالتَّأْصِيلُ الفَاسِدُ لِهَذِهِ الدِّيَارِ، لِأَنَّهُمْ نَظَرُوا فِي العَيْنِ وَلَمْ يَنْظُرُوا فِي القَوْمِ ابْتِدَاءً، وَقَد قُلنَا: أَنَّ النَّظَرَ الصَّحِيحَ يَكُونُ فِي القَوْمِ، ثُمَّ تَأْصِيلُ الإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ، ثُمَّ إلحَاقُّ العَيْن بِهِ، فَهَؤُلَاءِ بَدَأوا بِالْعَيْنِ فَنَظَرُوا فِي الْعَيْنِ فَوَجَدُوا أَنَّ بَعْضَ الْأَعْيَانِ يَعْرِفُونَ حَالَهَا، وَأَكْثَرُ الْأَعْيَانِ لَايَعْرِفُونَ حَالَهَا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا المَجْهُولِ، وَلَاشَكَ وَبِالضَّرُورَةِ هَذَا النَّظَرُ يؤدّي لِانْحِرَافٍ كَبِيرٍ جِدًّا فِي النِّهَايَةِ (أَيْ: فِي الْحُكْمِ)، خِلَافًا لِمَا يَبْدُو عَلَيْهِ الأَمْرُ أَوَّلَ وَهْلَةٍ، أَمَّا مَنْ نَظَرَ إِلَى القَوْمِ ابْتِدَاءً فَأَصَّلَ حُكْمَهُمْ، فَهَذَا لَا يَرِدُ عَلَيْهِ مَجْهُولَ الحَالِ، لِأَنَّ حَالَهُ مِنْ حَالِ قَوْمِهِ، فَهُوَ مَعْلُومُ الحَالِ فِي الصُّورَتَيْنِ (يَعْنِي: مَنْ وَافَقَ القَوْمَ ظَاهِرًا فَهُوَ مَعْلُومُ الحَالِ أَنَّهُ مِنْ قَوْمِهِ، وَمَنْ خَالَفَ القَوْمَ ظَاهِرًا فَهُوَ مَعْلُومُ الحَالِ أَنَّهُ يُعْطَى حُكْمًا خِلَافَ قَوْمِهِ)، أَمَّا مَنْ عَكَس القَضِيَّةِ وَنَظَرَ فِي الأَعْيَانِ ابْتِدَاءً نَظَرًا مُجَرَّدًا، هَذَا لَا شَكَّ أَنَّهُ سَوْفَ يَرِدُ عَلَى أَصْلِهِ مَسَائِل لِا يَجِدُ لَهَا جَوَابا فِي شَرْعِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، لِعَدَمِ وُقُوعِهَا فِي صَحِيحِ النَّظَرِ، فَحِينَذَاكَ تَنْحَرِفُ بِهِ المُقَدِّمَاتُ إِلَى أَحْكَامٍ بَاطِلَةٍ، فَيَحْكُمُ فِيهَا بِالأَهْوَاءِ، وَيَخْبِطُ فِيهَا خَبْطَ عَشْوَاء واللهُ المُسْتَعَانُ .
- وَمِنْ حَيْثُ التَّنْزِيل فِي هَذَا الزَّمَانِ فَنَقُولُ: أَنَّ الظَّاهِرَ المُعْتَبَرَ فِي إِسْلَامِ مَنْ يَعِيشُ بين هَذِهِ الأقْوَام المُشْرِكَةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَالبَرَاءَة مِنْ هَذِهِ الأَقْوَامِ وَمِنْ دِينِهِم البَاطِل الذِي هُوَ: دِينُ الدِّيمُقْرَاطِيَّةِ .
نَقِفُ هُنَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدكَ أَشْهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ .
▪▪انتهى الجزء الأوّل ▪▪