السلاسل العلميةسلسة الهداية في بيان حد الإسلام وحقيقة الإيمان بين التأصيل والتنزيل

حَدّ الظّاهِرِ المُعْتَبَرِ فِي دِيَارِ الْكُفْرِ: الدَّرْسُ العَاشِرُ: الْجُزْءُ الْأَوَّل

الْجُزْءُ الْأَوَّل: حَدّ الظّاهِرِ الْمُعْتَبَر (١) وفيه بيانُ اشتراكِ الشّعائرِ في هذا الزّمنِ

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحَمْدُ لِلهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ أمّا بعد…

▪ بَعْد تَأْصِيل الإِسْلَامِ فِي دَارِ الإِسْلَامِ، وَالكُفْر فِي دَارِ الْكُفْرِ بِالْأَدِلَّة وَتَقْرِير أَنَّ هَذَا الْأَصْل لَا يُرْفَعُ إلَّا بِظَاهِر مُعْتَبَرٍ يُصَارُ إلَيْهِ، وقرّرنا أنّ الأَصْل يُسْتَصْحَبُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الدُّور | يَعْنِي: يُسْتَصْحَب الإِسْلَام فِي دَارِ الإِسْلَامِ، وَالكُفْر فِي دَارِ الكُفْرِ، وَالظَّاهِر يَرْفَع هَذَا الْأَصْلَ إذَا كَانَ ظَاهِرًا مُعْتَبَرًا عِنْدَ تَعَارُضِ الأَصْلِ وَالظَّاهِرِ، وقرّرنا أَنَّ المُرَادَ بِالأَصْلِ هُوَ القَاعِدَةُ الْمُسْتَمِرَّة أو الِاسْتِصْحَاب، | يَعْنِي: يُسْتَصْحَبُ حُكْم الدَّارِ إسْلَامًا وَكُفْرًا، يَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: “لأَنَّ الْأَصْل أَنَّ مَنْ كَانَ فِي دَارٍ فَهُوَ مِنْ أَهْلِهَا يثْبتُ لَهُ حُكْمُهم مَا لَمْ يَقُمْ عَلَى خِلَافِهِ دَلِيلٌ” المُغْنِي، أَمَّا الظَّاهِرُ فَهُوَ مَا يَحْصُلُ بِالْمُشَاهَدَة وَكَذَلِك بِالسَّمَاع، وَقَدْ تَكَلَّمَ الفُقَهَاءُ فِي تَعَارُضِ الأَصْلِ وَالظَّاهِرِ فِي مَسَائِلَ عِدَّة فِي فُرُوعِ الْفِقْهِ، يَقُولُ ابْنُ رجب فِي كِتَابِهِ “الْقَوَاعِد” الْقَاعِدَةُ التَّاسِعَةُ وَالْخَمْسُونَ بَعْدَ الْمِئَة: “إذَا تَعَارَضَ الْأَصْلُ وَالظَّاهِرُ فَإِن كَانَ الظَّاهِرُ حُجَّةً يَجِبُ قبُولُهَا شَرْعًا كَالشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ وَالإِخْبَارِ فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَصْلِ بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بَلْ كَانَ مُسْتَنَدُهُ العُرْفُ أو الْعَادَةُ الْغَالِبَةُ أو الْقَرَائِنُ أو غلبةُ الظنِّ وَنَحْو ذَلِكَ، فَتَارَةً يُعْمَلُ بِالْأَصْلِ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى الظَّاهِرِ، وَتَارَةً يُعْمَلُ بالظّاهر وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى الْأَصْلِ، أَوْ يُخَرَّجُ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ”، ثمّ ذَكَرَ فُرُوعًا فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَذَكَرَ مِنْهَا مَجْهُول الحَالِ وَمَا يُسَمِّيه بِمَجْهُول الدِّينِ فَقَالَ: “وَمِنْهَا لَوْ وُجِدَ فِي دَارِ الإِسْلَامِ مَيِّتٌ مَجْهُول الدِّينِ فَإِن لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ عَلَامَةُ السَّلَامِ ولا الكُفْرِ أَوْ تَعَارَضَ فِيهِ عَلَامَةُ السَّلَامِ وَالكُفْرِ صَلَّى عَلَيْهِ، نَصَّ عَلَيْهِ (يعني: أَحْمَد)، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ الْكُفْرُ خَاصَّةً فَمِن الْأَصْحَابِ مَنْ قَالَ: يُصَلَّى عَلَيْهِ وَالمَنْصُوصُ عليه عِنْدَ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُدْفَنُ، وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى تعَارُض الْأَصْل والظّاهر، إذ الْأَصْلُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ الْإِسْلَامُ، والظَّاهِرُ فِي دار الكُفْرِ الكفرُ، وَلَوْ كَانَ المَيِّتُ فِي دَارِ الكُفْرِ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ عَلَامَاتُ الْإِسْلَامِ صُلِّيَ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا، وهذا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْن سَعِيدٍ، قَالُوا: هَذَا تَرْجِيحٌ لِلظَّاهِرِ عَلَى الْأَصْلِ هَاهُنَا كَمَا رَجَّحَهُ فِي الصُّورة الأولى” القواعدُ لابن رجب.

  • نَقُول: بَعْدَ تَقْرِير الْأَصْلِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ الْإِسْلَام والْأَصْلُ فِي دار الكُفْر أنَّهُ الكُفْرُ، وَبَيَان أَنَّ ثَمَّ ظَاهِر يَرْفَعُ هَذَا الأَصْل عِنْدَ التَّعَارُضِ، فَالّذِي نرومُ تَحْقِيقه بِحَوْلِ اللهِ وَقُوَّتِهِ هَاهُنَا هوَ حَدّ الظَّاهِر الْمُعْتَبَر الَّذِي يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ تَعَارضِ الْأَصْلِ وَالظّاهِرِ .
    وَنَقُولُ: أنَّ مِن السَّدَادِ والتّوفيق فِي النَّظَرِ فِي مِثْل هَذِهِ الْمَسَائِلِ الدَّقِيقَةِ لِمَن تَعَنَّى بِالتَّحْقِيق فِيهَا، أَن يَنْظُرَ فِي فِقْهِ الوَاقِعِ الذِي نَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ النُّصُوصُ، وَكَذَلِك يُنْظَر فِي فِقْهِ الصَّحَابَةِ فِي الْعَمَل بِهَذِهِ النُّصُوصِ وتنزيلها عَلَى وَقَائِع مُخْتَلِفَة، لأَنَّ قَطْعَ النُّصُوص عن واقعها مَدعَاة إلَى الحيد بها إلى غَيْرِ تَنْزِيلِهَا، وَهُوَ نَظَرٌ فِي المَسْأَلَةِ مِنْ زَاوِيَةٍ ضيّقة، ونظرٌ كذلك فِي نُصُوص بِعَيْنِهَا فِي وَقَائِع خَاصَّة فتَعديتها إلَى غَيْرِهَا لَا شَكَّ أَنَّهُ غَلَطٌ، فَهَذَا النَّظَرُ القَاصِر عُمُومًا يُؤَدِّي إلَى ضَرب النُّصُوص بَعْضهَا بِبَعْضٍ، لِمَن قَصُرَ فَهْمُهُ وَنَظَره والإحاطة بِجُمْلَة الْأَدِلَّة وَالْفَهْم الصَّحِيح لَهَا بِاعْتِبَارِ كُلّ نَصّ فِيمَا نَزَلَ .


▪نحن الآن نَذْكُر الوَقَائِع بِاعْتِبَار أَنَّ المُسْلِمِينَ كَانوا فِي بِدَايَةِ الإِسْلَامِ فِي وَاقِع وكَانوا فِي دَارِ كُفْرٍ وكَانُوا مُسْتَضْعَفِين فِيهَا، ثُمَّ هَاجَرُوا إِلَى المَدِينَةِ فَصَارَ فِيهِ ظُهُور لِلْإِسْلَام وَشَرَائِعه، ثُمَّ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَارْتِدَاد العَرَب وَكُفْرِهِم فَصَار ثمّ وَاقِعٌ آخَرٌ، فَهَذا الوَاقع النَّظَر فِيهِ إن شاء الله تعالى هُوَ الذِي يَكُونُ بِهِ الفَهْم الصَّحِيح لِمِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَالصَّحَابَة فِي مَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ كَانُوا قِلَّة بَيْن كَثْرَة مُشْرِكَة فِي دَار كُفْرٍ يُفْتَتن فِيهَا عَنْ دِينِهِ مَنْ لَا عُصبة لَهُ وَلَا جِوار، كَمَا سَبَقَ مَعَنَا كَانَ الإِسْلَامُ غَرِيبًا فِي بِدَايَته وَفِي مَخْرَجِه، وَكَان حَامِله طَرِيدا بَيْنَ قَوْمِهِ، وَقُرَيْشٌ قَد استعلنت بعدائها لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، فِي مِثْلِ هَذِهِ الدَّار وَبَيْن هَؤُلَاءِ القَوْمِ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِ العَيْنِ إلَّا مَنْ تَكَلَّمَ بِالْإِسْلَامِ وَنَطَقَ بِهِ، وَأَظْهَر مُفَارَقَة دِين قَوْمِهِ المُشْرِكِين، هَذَا الظَّاهِر الذي هوَ التَّكَلُّم بِالْإِسْلَام وَالنُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ، والذي يَتَمَيَّزُ بِهِ المُسْلِمُ عَن المُشْرِك، وَتَحْصُل بِه المُفَاصلَة للجاهليّة، لأنّهُ أظهرَ خِلَاف مَاأَظْهَرَهُ القَوْمُ مِن الشِّرْكِ، و الْكُفْر، وَاتِّبَاع دِين الْآبَاءِ، وَالْأَجْدَادِ، وَإِنْكَار النُّبُوَّة، فهَذَا الظَّاهِرُ وهُوَ الْقَوْلُ (أي: التَّكَلّم بِالْإِسْلَامِ، هو ظَاهِر مُعْتَبَرٌ فِي مِثْلِ هَذِهِ الدَّار، وَهَذَا ظَاهِرٌ يَرْفَع الْأَصْل المُتَقرّر فِي دَارِ مَكّةَ (أنّهَا دَارُ كفّر وَأن أَهْلَهَا كُفَّار)، رُوِيَ عَنْ هِشَام بْن عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عَبْدَ المَلِكِ بْن مَرْوَان كَتَبَ إِلَيْهِ يَسْأَلُهُ عَنْ أَشْيَاءَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُرْوَةُ: “سَلَامٌ عَلَيْكَ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ الله الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أَمَّا بَعْدُ…
فَإِنَّكَ كَتَبْتَ إِلَيّ تَسْأَلُنِي عَنْ مَخْرَجِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ، وَسَأُخْبِرُكَ بِهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ . كَانَ مِنْ شَأْنِ خُرُوجِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ، أَنَّ الله أَعْطَاهُ النُّبُوَّةَ، فَنِعْمَ النَّبِيُّ! وَنِعْمَ السَّيِّدُ! وَنِعْمَ العَشِيرَة! فَجَزَاهُ اللهُ خَيْرًا، وَعَرَّفَنَا وَجْهَهُ فِي الْجَنَّةِ، وَأَحْيَانَا عَلَى مِلَّتِهِ، وَأَمَاتَنَا عَلَيْهَا، وَبَعَثَنَا عَلَيْهَا. وَإِنَّهُ لَمَّا دَعَا قَوْمَهُ لِمَا بَعَثَهُ اللهُ لَهُ مِن الْهُدَى وَالنُّورِ الذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ، لَمْ يَبْعُدُوا مِنْهُ أَوّلَ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ، وَكَادُوا يَسْمَعُونَ لَهُ، حَتَّى ذَكَرَ طَوَاغِيتَهُمْ” تفسيرُ الطّبريّ، كَذَلِكَ حَال النَّاسِ إذَا ذكرْتَ لَهُ بعض الحَقِّ الذِي تعْتَقِدُهُ وافقك فِيهِ جُمْلَةً، ثُمَّ إذَا جِئْتَ إلَى الفَيْصَل بَيْنَك وَبَيْنَهُ فذَكرْت هَذِه الطَّوَاغِيت وعِبتها وكفّرتها، حِينَ ذَاكَ يَنْتَفِض وَيَرْفُض هَذِهِ الدَّعْوَةَ وَاللهُ المُسْتَعَانُ .
يَقُول عروة: “وَقَدِمَ نَاسٌ مِن الطَّائِفِ مِنْ قُرَيْشٍ، لَهُمْ أَمْوَالٌ، أَنْكَرَ ذَلِكَ نَاسٌ، وَاشْتَدُّوا عَلَيْهِ(يعني بعد ذِكر الطّواغيت)، وَكَرِهُوا مَا قَالَ، وَأَغروا بِهِ مَنْ أَطَاعَهُمْ، فَانْصَفَقَ عَنْهُ عَامَّةُ النَّاسِ فَتَرَكُوهُ، إِلَّا مَنْ حَفِظَهُ اللهُ مِنْهُمْ وَهُمْ قَلِيلٌ، فَمَكَثَ بِذَلِكَ مَا قَدَّرَ الله أَنْ يَمْكُثَ، ثُمَّ ائْتَمَرَتْ رُؤُوسُهُمْ بِأَنْ يَفْتنُوا مَن اتَّبَعَهُ عَنْ دِينِ اللهِ مِنْ أَبْنَائِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ، فَكَانَتْ فِتْنَة شَدِيدَة الزِّلْزَالِ، فَافْتتنَ مَن افْتتنَ، وَعَصَمَ اللهُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ” تفسيرُ الطّبريّ، والأَثَر طَوِيلٌ ذَكَرْنَا مِنْهُ هَذَا، وهذا الأَثَرُ عَظِيمٌ حَقِيقَة فِي بَيَانِ مَبْدَأ الْإِسْلَام وَحَال الدَّعْوَة فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وأَنَّهَا دَعْوَة الرَّجُل وَالرَّجُلَيْن وَأنّ فِيها الأذى والْفِتْنَة الشَّدِيدَة، لِذَلِكَ إذَا رَأَيْتَ رَجُلًا قَد اتَّبَعَه الكَثِير مِن النَّاسِ فَاعْلَمْ أَنَّه يُعْطِيهِم مَا يُحِبُّون خَاصَّةً فِي هَذَا الزَّمَانِ مَعَ كَثْرَةِ الْفِتَن وَاشْتِدَادِهَا وَغُرْبَة الْإِسْلَامِ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَإِنَّمَا هِيَ دَعْوَةُ الرَّجُلِ وَالرَّجُلين، فالإنسان يثبت عَلَى الْحَقِّ وَإِنْ لَمْ يَتَّبِعْهُ وَيَكُنْ مَعَهُ إلَّا الرَّجُل وَالاثْنَيْن وَالثَّلَاثَة والله المُسْتَعَانُ .

  • نقُول بأنّ العَرَب فِي ذَلِكَ الْحِينِ كَانُوا يَعْرِفُونَ مَعْنَى “لَا إلَهَ إلَّا اللهُ”، لأنَّهُمْ كَانُوا عَرَبا عَلَى السَّلِيقَةِ، وَكَانُوا يَفْهَمُون مَعْنَى “لَا إلَهَ إلَّا اللهُ”، وَكَانُوا كَذَلِك يَعْلَمُون مَدْلُولَ هَذِهِ الكَلِمَةِ وبأَنَّهَا إفراد الله عزّ وجَلّ بخصائصه فِي الأُلُوهِيَّةِ، والرّبوبيّة، وَالحُكْم، وَالِاتِّبَاع، وَأَنَّهَا تَقْتَضِي خَلْع الأَرْبَاب وَالْأندَاد، ومُفَارَقَة دِين الْأَجْدَاد وَالآبَاء وتكفيرهم، كَمَا رَوَى ابْنُ إسْحَاقَ قَالَ:” ثُمَّ «إِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيق لَقِيَ رَسُولَ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَقَالَ: أَحَقٌّ مَا تَقُولُ قُرَيْشٌ يَا مُحَمَّدُ مِنْ تَرْكِكَ آلِهَتَنَا، وَتَسْفِيهِكَ عُقُولَنَا، وَتَكْفِيرك آبَاءَنَا؟” البداية والنّهاية، فَكَانوا يَعْلَمُون مَعْنى “لَا إلَهَ إلَّا الله”، فقَائِلُ كَلِمَة التَّوْحِيدِ “لَا إلَهَ إلَّا اللهُ” بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ فِي مَكَّةَ وفِي تِلْكَ الدَّارِ، يَخْرُجُ مِنْ دِينِهِ البَاطِل وَالجَاهِلِيَّة، ويفاصل قَوْمَه، وَيَسْتَسْلِم لِله بِالتَّوْحِيد، وينقاد لَه بِالطَّاعَة وَالِاتِّبَاع، فَكَان المُسْلِم يَقُولُهَا مُعْتَقِدًا لِمَعْنَاهَا الّذِي يَعْرِفُهُ مِنْ لُغَة الْعَرَبِ وواقع الحَالِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَيصير بِقَوْلِهِ: “لَا إلَهَ إلَّا اللهُ” مُؤْمِنًا مُسْلِمًا, وَالمُشْرِك كَذَلِكَ كَانَ يَجْحَد هَذِهِ اللَّفْظَة وهذا لِمَا يَجْحَدُه مِنْ معناها الذِي يَعْرِفُهُ مِنْ لُغَة العَرَبِ ووَاقِع الحَالِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَيَصِير بِهِ جَاحِدًا مُكَذِّبًا, فَبِهَذِهِ الكَلِمَةِ تَمايَز الصَّفَّان وَبَانَت السَّبِيلَان بكَلِمَة التَّوْحِيد “لَا إلَهَ إلَّا اللهُ”، فَكَانَ الظَّاهِرُ المُعْتَبَرُ فِي التَّمْييزِ بَيْنَ المُشْرِكِينَ وَالْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ كُفرٍ أَهْلُهَا وثنيّون لَا يَتَكَلّمُونَ بِالْإِسْلَامِ هُوَ: النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ العِلْمِ بِمَعْنَاهَا (أي العمل بمَا تَضَمَّنَتْهُ مِن الْبَرَاءة مِن الشِّرْكِ وَأَهْلِه وَنَحْوِ ذَلِكَ..) وَالْعَمَل بِمُقْتَضَاهَا، يَقُولُ الْبَغَوِيّ فِي قَوْلِهِ: “أُمِرْتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حتَّى يقولوا لا إلَهَ إلَّا اللهُ فَإِذا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءهُم وَأمْوالهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ” رواه البخاريّ، وَقَوْلُهُ: “حَتَّى يَقُولوا لَا إلَهَ إلَّا اللهُ” أَرَادَ بِهِ عَبَدَة الْأَوْثَانِ دُونَ أَهْلِ الكتاب لأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، ثُمَّ لا يُرْفَعُ عَنْهُم السّيْفُ حَتّى يُقِرّوا بِنُبُوَّة مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ أو يُعطوا الجزية” شرح السّنّة، وهَذَا الحَدِيث إنَّمَا يُفْهَمُ عَلَى ضَوْءِ قوم لَا يَقُولُونَ “لَا إلَهَ إلَّا اللهُ” لِذَلِكَ حَمَلَه الْبَغَوِيّ هَاهُنَا عَلَى عَبَدة الأَوْثَانِ، فَهَؤُلَاءِ لَا يَقُولُونَ: لَا إلَهَ إلَّا اللهُ, فَإِذَا قَالُوهَا كَانَتْ مُعْتَبَرَةً فِي حَقِّهِمْ, أَمَّا القَوْمُ يَقُولُونَ كَأَهْلِ الكِتَابِ “لَا إلَهَ إلَّا اللهُ” قَالَ: (لَايُرْفَعُ عَنْهُم السّيْف حَتّى يُقِرّوا بِمَا خَالَفُوا فِيهِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَصْلِ عَقَائِدِهِم)، أَمَّا الشَّعَائِر الْمُشْتَرَكَة فَنَقُول: أَنَّهَا غَيْرُ مُعْتَبَرَة، لِأَنَّ مَكَّة فِي ذَلِكَ الحِينِ فِي الجَاهِلِيَّةِ كَانَت فِيهَا شَعَائِر، فَكَانَ المُشْرِكُونَ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ، وَيَحُجُّون, وَيَعْتَمِرُون وَيَتَصَدَّقُون، وَيَصُومُونَ، وَينذرون، وَكَانُوا يَعْمُرُون الْمَسْجِد الحَرَامَ، ويَفُكُّون العَاني “الأسير”, وكَانَ فِيهِمْ كَثِير مِن الشَّعَائِر التِي كَانَت مَوجُودَةً فِي مَكَّة وَهيَ مِنْ بَقَايا مِلّةِ إِبْرَاهيمَ التِي يَنْتَسِبُون إلَيْهَا، هَذَا الظّاهِرُ هلْ هُو ظَاهرٌ مُعْتبَرٌ فِي مَكَّة؟ يَعْنِي: الْحَجّ وَكَذَلكَ الصّيَامُ، وَالنَّذْر، وَعِمَارَة الْمَسْجِد الحَرَامِ وَالصّدَقَة وَنَحوِ ذَلِك، هَلْ هِيَ ظَوَاهِر مُعْتَبَرَةٌ فِي ذَلِكَ الْحِينِ؟!! نَقُولُ: لَيْسَتْ مُعْتَبَرَةً وذلك لِعَدَم اخْتِصَاصِهَا بِطَائِفَة مُعَيَّنة، يَقُولُ عَبْدُ اللهِ بْن عَبَّاسٍ في قَوْلُهُ: “{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَة الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: ١٩] قَالَ العبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حِينَ أُسِرَ يَومَ بَدْرٍ: لَئِنْ كُنْتُمْ سَبَقْتُمونا بِالإِسْلام وَالهِجرَةِ وَالجِهَادِ، لَقَد كُنَّا نَعْمُر المَسْجِدَ الحَرَامَ، وَنسقِي الحَاجَّ، وَنَفُكُّ الْعَانِي، قَالَ اللهُ تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ} [التوبة: ١٩] إِلَى قوْلِه: {الظَّالِمِينَ} [التّوبة: ١٩] يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الشِّرْكِ، وَلَا أَقْبَلُ مَا كَانَ فِي الشِّرْكِ” تفسيرُ الطّبريّ | يَعْنِي: هذِهِ الشّعائر كَانت حِين ظُهُور الشِّرك وَعُلُوِّه، واللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَقْبَلُ هَذِهِ الشَّعَائِر حين ظُهُور الشِّرْك وعُلُوِّه، فَهَذِه الشَّعَائِر الَّتِي تَفَاخَر بِهَا الْعَبَّاس غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ شَرْعًا، لأَنَّهَا كَانَتْ مَعَ ظُهُورِ الْجَاهِلِيَّة وَالشِّرْك بِاللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَهيَ غَيرُ مُعْتَبَرةٍ فِي التَّميِيزِ بيْنَ المُؤْمِنِ وَالكَافِرِ، لِأَنّهَا مُشتَرَكةٌ بَيْنَهمَا وَبِذلكَ تَصِير مُفرغة مِن الدَّلالَةِ، وكَذلِك وُجِدَ فِي الجَاهِلِيَّةِ شعائر، مِنْهَا مَا روي عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حازم قَالَ: “دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ أَحْمَس يُقَالُ لَهَا زَيْنَبُ، فَرَآهَا – لاَ تَكَلَّمُ، فَقَالَ: «مَا لَهَا لاَ تَكَلَّمُ؟» قَالُوا: حَجَّتْ مُصْمتَةً، قَالَ لَهَا: «تَكَلَّمِي، فَإِنَّ هَذَا لاَ يَحِلُّ، هَذَا مِنْ عَمَلِ الجَاهِلِيَّةِ» صحيح البخاريّ, كَذَلِك حَدِيث عَائِشَةَ قالت: “كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ تَصُومُهُ قُرَيشٌ فِي الجَاهِلِيَّةِ” رواه البخاريّ، وكذلك حديث عُمَرَ أَنَّه سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: “كُنْت نَذَرْتُ فِي الجَاهِلِيَّةِ أَن أَعْتَكِفَ ليلةً في المسجدِ الحرامِ” رواه البخاريّ، كَانُوا يَنْذُرُونَ وَيَعْتَكِفُونَ فِي الجَاهِلِيَّةِ وَهَذِهِ كُلُّهَا مِنَ الشَّعَائِرِ، فهل كَانَتْ مُعْتَبَرَةً فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَفِي ذَلِكِ الزَّمَانِ؟ نَقُولُ: لَمْ تَكُنْ مُعْتَبَرَةً لِظُهُورِ الْجَاهِلِيَّةِ وَعُلُوِّ الشِّرْكِ، فَإِذَا عَلَا الشِّرْكُ وَظَهَرَت الْجَاهِلِيَّةُ فِي قَوْمٍ فَنَقُولُ: أَنَّ هَذِهِ الشَّعَائِرَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي ذَلِكَ القَوْمِ، وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ فِي دَارِ قَوْمٍ أَهْل كِتَابٍ كَالغَرْبِ وَنَحْوِهَا.. فَالظَّاهِرُ الْمُعْتَبَرُ فِي الْحُكْمِ عَلَى الْأَعْيَانِ بِالْإِسْلَامِ هُوَ النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ النُّطْقُ بِأَنّ عيسَى عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ لِلنَّاسِ كَافَّةً، وَاعْتِقَاد مَاتَضَمَّنَتْه هَذِهِ الشَّهَادَةُ مِنْ إِفْرَادِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالْعِبَادَةِ، وَالطّاعَةِ، وَالتَّشْرِيعِ، وَعَدَمِ اتِّخَاذِ الْأَرْبَابِ فِي الْحَاكِمِيَّةِ، وَالِاتِّبَاعِ، كَمَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ مِن اتِّخَاذِ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، هَذَا المَعْنَى يَجِبُ أَنْ يَنْطِقَ بِهِ هَذَا الْأَعْجَمِيُّ لِتَتَحَقَّقَ المُفَاصَلَة، لأَنَّهُ لَيْسَ بِعَرَبِيٍّ، فَهُوَ لَايَفْهَمْ مِن الشَّهَادَةِ مَاكَان يَفْهَمُهَا أَبُو جَهْلٍ وَنَحوه، فَهُمْ كَانُوا يَفْهَمُونَ مَعْنى “لَاإِلَه إِلَّا اللهُ” لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَرَبا أَقْحَاحًا، أَمَّا النَّاسُ اليَوْمَ فَهُمْ عَلَى عُجْمَةٍ فيَجِبُ أَنْ يَنْطِقُوا بِهَذِهِ الْمَعَانِي، وَإِلَّا نَقُولُ أَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا بِكَلَامٍ لَا يَفْهَمُونَهُ وَلَا يَعْرِفُونَ مَعْنَاهُ, فَكَيْفَ يَكُونُ حَدًّا فَاصِلًا بَيْنَ الإِسْلَامِ وَالكُفْرِ، فَمَعَانِي الشَّهَادَةِ كَانَ يَفْهَمُهَا أَهْلُ الْقُرُونِ الْأُولَى، لِأَنَّ هَذِهِ المَعَانِي لَاتَنْعَقِدُ وَلَا تَصِحُّ الشَّهَادَةُ إِلَّا بِهَا، يَقُولُ الشَّافِعِيُّ: “فَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْ لِسَانِ العَرَبِ مَا بَلَغَهُ جهدهُ، حَتَّى يَشْهَدَ بِهِ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَيَتْلُو بِهِ كِتَابَ اللهِ، وَيَنْطِقُ بِالذِّكْرِ فِيمَا افترضَ عَلَيْهِ مِن التَّكْبِيرِ، وَأُمِرَ بِهِ مِن التَّسْبِيحِ، وَالتَّشَهُّدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ” الرِّسَالَة، كَذَلِكَ مِن الآثَارِ فِي ذَلِكَ مَارَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي قِصَّةِ وُرُود خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ مِنْ جِهَةِ أَبِي بَكْرٍ الصّدّيق رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الحِيرَةَ وَمُحَاوَرَة هانئِ بنِ أَبي قبيصة إيّاهُ فقَال خالد: “أَدْعوكم إلَى الْإسْلامِ وَإِلى أَنْ تَشهَدُوا أَن لَا إله إلّا الله (هؤلاء كانوا من النّصارى) وَحْدَهُ وَأنّ مُحمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُه وتقيموا الصّلَاة وتؤتوا الزّكَاةِ وَتقِرّوا بِأَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ” فجرت مُحَاوَرَة بَيْنهُ وَبَيْن هَانِئٍ فِي ذلك، نَقُول: أَنَّ الفُقَهَاء هُنَا قد اخْتَلَفوا فِي الحُكْمِ بالشّعيرة، فَمِنْهُمْ مَن اعْتَبَرَها وَمِنهُمْ مَنْ لَم يَعْتَبِرهَا، ومن اعْتَبَرَهَا مِنَ الفُقَهَاءِ إنَّمَا اعْتبَرَهَا بِقَيْد الِاخْتِصَاص دُونَ الِاشْتِرَاكِ ، وَهَذَا مَعْرُوفٌ في كُتُبِ الفِقْهِ، يَعْنِي: لَوْ نظرت فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ فِي الْحُكْمِ بالشّعيرة، فالْكَافِر إذَا أَتَى بالشّعيرة هَلْ تُقْبَلُ مِنْهُ أو لَا تُقْبَلُ مِنْهُ؟ هَذِه مَسْأَلَةٌ حَرَّرَهَا الْفُقَهاءُ وَهِيَ مسْأَلَةٌ مبحوثَة في كُتُبِ الْفِقْهِ، وَمَعْرُوف عِنْدَ الْفُقَهَاءِ كالحَنَابِلَة وَكَذَلِكَ فُقّهاء الحَنَفِيَّة اعْتَبرُوا الشَّعَائِر بِقَيْد الِاخْتصَاص دُونَ الِاشْتِرَاكِ بَينَ طوائف الْكفْر، يَقُولُ السرخسيّ وَعَنْ سَلَمَةَ قَالَ: “سَأَلْتُ الشَّعْبِيّ عَن الصَّبِيِّ مَتَى يُصَلَّى عَلَيْهِ؟ قَالَ إذَا صَلَّى فَصَلّوا عَلَيْهِ وَتَأْوِيلُ هَذَا فِيمَا إذَا لَمْ يُسْمَعْ منه الإِقْرَار بالإسلام، وَلَكِنَّهُ صَلَّى مَعَ الْمُسْلِمِينَ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ الْحُكْمَ بِإِسْلَامِهِ عِنْدَنَا، (لِمَاذَا اشْتَرَط الْقَيْد؟ وَلَكِنَّهُ صَلَّى مَعَ الْمُسْلِمِينَ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ الْحُكْمَ بِالْإِسْلَامِ عِنْدَنَا) لِأَنَّ المشركينَ لا يُصَلُّونَ بِالْجَمَاعَةِ عَلَى هَيْئَةِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِظْهَار مَا يَخْتَصُّ بِهِ المُسْلِمُونَ فِعْلًا يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ إظْهَار مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْمُسْلِمُونَ قَوْلًا فَيَصِيرُ بِهِ مُسْلِما” (يَعْنِي: لَا إلَهَ إلَّا اللهُ) _ إلَى أَنْ قَالَ: “فَأَمَّا إذَا صَامَ وَأَدَّى الزَّكَاةَ وَحَجَّ لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ”. وَفِي رِوَايَة داوود بن رشيدٍ عَنْ مُحَمَّد قَالَ: “إذا حَجَّ الْبَيْت على الوجه الذي يفعلُه المسلمون يُحْكَم بِإِسْلَامِهِ لِأَنَّهُ ظَهَرَ مِنْهُ فِعْلُ مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْمُسْلِمُونَ فيُجعلُ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى إسْلَامِهِ والله أَعْلَمُ” شَرْح السّيَر الكبير، فَتَرَى أَنَّ تَعْلِيلَ الْحُكْمِ بِالْإِسْلَامِ لِمَنْ تَلَبَّسَ بالشّعائر مَدَاره عَلَى الِاخْتِصَاصِ، وَبِهِ حَكَمَ كَذَلِكَ الحَنَابِلَة كَمَا قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ بَعْدَ كَلَامٍ طَوِيل: “وَقَدْ فَرَضَ عَلَى نَصَارَى بَنِي تَغْلب مَن الزَّكَاةِ مِثْلَيْ مَا يُؤْخَذُ مِنَ المُسلمين ولم يصيروا بذلك مسلمين وأمّا الصِّيَام فلكلِّ أهل دينٍ صيامٌ، ولأَنّ الصِّيَام لَيْسَ بِفِعْلٍ، إِنَّمَا هُوَ إمْسَاكٌ عَنْ أَفْعَال مَخْصُوصَة فِي وَقْت مَخْصُوصٍ، وَقَدْ يتَّفقُ هَذَا مِن الكَافِرِ كاتّفاقه مِن المُسْلِمِ، وَلَا عِبْرَةَ بِنِيَّة الصِّيَامِ، لأنَّهَا أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا عِلْمَ لنا به بِخِلَافِ الصَّلَاة فَإِنَّهَا أَفْعَالٌ تَتَمَيَّزُ عَنْ أَفْعَالِ الْكُفَّار، وَيَخْتَصُّ بِهَا أَهْلُ الْإِسْلَامِ وَلَا يَثْبُتُ الْإِسْلَام حَتَّى يَأْتِيَ بِصَلَاة تتَمَيَّزُ بِهَا عَنْ صَلَاةِ الْكُفَّارِ، مِن اسْتِقْبَالِ قِبْلَتِنَا وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ قَالَ: “وَلَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ القِيَامِ لأَنَّهُمْ يَقُومُونَ في صَلَاتِهِمْ” المُغني، هَذَا وَاضِحٌ ظَاهِرٌ فِي اشتراط الاختصاص فِي هَذِهِ الشعائر .
  • نَقُول: أَنّ الحَنَابِلَة وَكَذَلِك بعض الأحناف اعْتَبَرُوا الصَّلَاة فِي الحُكْمِ بِالْإِسْلَامِ لِكَوْنِهَا مِنْ خَصَائِصِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يعتبروا الحَجَّ وَالصِّيَام مَعَ كَوْنِهَا مِن الشَّعَائِرِ لِاشْتِرَاكِهَا وَعَدَم اختصاصها، طَبْعًا الْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ خَالَفُوا فقَالوا: “لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِ الْكَافِر بِمُجَرَّد صلاته لأَنَّ الصَّلَاةَ مِنْ فُرُوعِ الْإِسْلَامِ، فَلا يَصِير مُسْلِمًا بِفِعْلِهَا” الدسوقي على الشّرح الكبير، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَرَدَ كَذَلِكَ مِن الْآثَارِ أَنَّ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يُصَلِّي أَقْوَام لَا خَلَاقَ لَهُمْ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللهِ الديلميّ قَالَ: “تَذْهَب السُّنَّةُ سُنَّةً سنّةً كَمَا يذْهبُ الحَبْل قُوَّةً قُوَّة، وَآخِر الدِّين الصَّلَاة وَلَيُصَلِّيَنَّ قَوْم لَا خَلاق لَهُم” البدعُ والنّهي عنها، وقد ذكرنا جُمْلَة مِنْ هَذَا فِي مُقَدِّمَةِ هَذِهِ السِّلْسِلَة، فِي غُرْبَة الْإِسْلَامِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، كذلك ذَكَرْنَا أَثَر عَبْد الله بْنِ عَمْرو قَالَ: “يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَبْقَى مُؤْمِن إلَّا لحَق بِالشَّام وَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَجْتَمِعُونَ فِي الْمَسَاجِدِ لَيْسَ فِيهِمْ مُؤْمِنٌ” السّنّة للخلّال
  • فَنَقُولُ: أنَّ الدَّلَالَةَ إذَا اشْتَرَكَت تَفَرَّغت عَنْ كَوْنِهَا دَلَالَة، وَكَذَلِك تَفَرَّغَت عَن الِاخْتِصَاصِ وَالتَّمْيّيزِ بَيْنَ قَوْمٍ وَقَوْم، فَيَكُون لَا اعْتِبَارَ لَها، وَهَذَا مُتَقَرّر عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، يقول ابْن نجيم: “الْأَصْلُ أَنَّ الكَافِرَ مَتَى فَعَلَ عِبَادَةً فَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي سَائِرِ الأَدْيَانِ لَا يَكُونُ بِهَا مُسْلِمًا، كَالصَّلَاة مُنْفَرِدًا وَالصَّوْم وَالْحَجِّ الَّذِي لَيْسَ بِكَامِل، وَالصَّدَقَة وَمَتَى فَعَلَ مَا اخْتَصَّ بِشَرْعِنَا وَلَوْ مِن الْوَسَائِلِ كَالتَيَمُّم وَكَذَلِكَ مَا كَانَ مِن الْمَقَاصِدِ أَوْ مِن الشَّعَائِرِ، كَالصَّلَاةِ بِجَمَاعَةٍ، وَالْحَجّ الْكَامِل، وَالْأَذَانِ فِي الْمَسْجِدِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، يَكُونُ بِهِ مُسْلِمًا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الْمُحِيطِ وَغَيْرِهِ” الدّرّ المختار والمُغني .
  • نَقُولُ: أنَّ فِي هَذَا الزَّمَانِ الذِينَ نعيش فِيهِ واللهُ المُسْتَعَانُ الصَّلَاة ليْسَت شَعِيرَة خَاصَّة بِالْمُسْلِمِين حَتَّى يَحْصُلَ بِهَا التّميّز، سَوَاءً كَانَت جَمَاعَةً أَوْ كَانَتْ عَلَى جِهَةِ المُنْفَرِد لِأَنّ الطَّوَائِف الْكَافِرَة فِي هَذَا الزّمان كُلُّهَا تُصَلِّي كالطّواغيت، وجيوشهم، وَشُرَطهم، وَعُلَمَائِهِم، وأوليائهم، كالمداخلةِ، وَالإِخْوَان، والقبوريّة، وَالْأَحْزَاب العلمانيّة، والرَّافِضَة وَغَيْرِهِم ..كُلُّهُم يصلون، بَل الْمَسَاجِد الْيَوْم أَكْثَرهَا مَسَاجِد ضِرَار لَا يَعْمُرُهَا إلَّا الْمُشْرِكِينَ، كَمَا سَبَقَ مَعَنَا فِي الْآثَارِ، وَلَا يَؤمُّهُم إلَّا أَئِمَّة منتسبين إلَى هَذِهِ الوزارات الطّاغوتيّة، فالصَّلَاة وَرَاءَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ بَاطِلَةٌ وَلَا تَصِحُّ بِإِجْمَاعٍ، وَمَنْ يُصَلِّي فِي الْمَسَاجِدِ فِي هَذَا الزَّمَانِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الدِّيَار وَرَاءَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ المُرْتَزقَة عُبَّاد الطَّوَاغِيت نقُولُ: أنَّهُ كَافِرٌ بِاللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَصَلاته فِي هَذِه الْجَمَاعَة الْمُشْرِكَة هِيَ مَنَاطٌ لِكُفْرِه وَلَيْسَت علامة عَلَى إسْلَامِهِ وَشَعِيرَة تُصَححُّ لَهُ الْإِسْلَام واللهُ الْمُسْتَعَانُ .
  • كَذَلِكَ الأَذَانُ الذِي يُرْفَعُ فِي هَذِهِ البُلْدَانِ، نَقُولُ: أنَّهُ لَيْسَ بِعَلَامَة وَأمَارَة عَلَى إسْلَامِهِم، لِأَنَّ هَذَا الْأَذَانَ يُرْفَع كَذَلِكَ فِي الْمَسَاجِدِ الْمَوْجُودَةِ فِي دُوَلِ الْكُفْر والْغَرْب، ثُمَّ هُوَ نِدَاء إلَى الصَّلَاةِ فِي مَساجِد الضِّرَار الّتِي لَا تصِحُّ الصَّلَاةُ فِيهَا، وَنِدَاء إلَى الصَّلَاةِ فِيهِ وَرَاء أَئِمَّة الْكُفْرِ، فَهَذَا لَا شَكَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَلَامَة عَلَى الْإِسْلَامِ، فَهَذِه الشَّعَائِر التِي يَتَمَسَّكُ بِهَا الْآنَ مَنْ يُصَحِّحُ إسْلَام الْمُشْرِكِين هِيَ دَلَالَةٌ عَلَى كُفْرِهِمْ وَلَيْست دَلَالَةٌ عَلَى إسْلَامِهِمْ وَاللهُ المُسْتَعَانُ .
  • نَقِف هُنَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَشْهَدُ أَن لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ أسْتغفرك وَأَتُوبُ إلَيْك .

🖋 يتبع بالجزء الثاني بإذن الله

سراج الطريق

نحن نزاعٌ من القبائل حققوا البراءة من هذه الجاهلية النكراء … نحن الغرباء الذين تقلدوا لواء الإصلاح … بقايا الحنفاء من يُصلحون إذا فسد الناس … نحن القلة المستضعفة … القلة التي تفر بدينها … القلة السالكة المستوحشة … الحاملون لجراح أمتهم … سراج الظلم في تيه الجاهلية … الأمل في عود الضياء … عِصابة المسلمين وعصارة الموحدين في زمن أقفر ما بين لبنتيها من المسلمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى