السلاسل العلميةسلسة الهداية في بيان حد الإسلام وحقيقة الإيمان بين التأصيل والتنزيل

الأصل في دار الكفر ودار الإسلام: الدَّرْسُ التاسع: الْجُزْءُ الثَّانِي

الجزءُ الثَّانِي: الأصل في الدور ٢

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين أما بعد …

لا يزال حديثنا متواصلا في ذكر الأدلة على أن الأصل في دار الكفر كفر أهلها ومنها قوله تبارك وتعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ}، “وقال رجل مؤمن” فقيده المولى تبارك وتعالى بصفة الإيمان، لأنه لو نسب إلى قوم آل فرعون بلا قيد لكان منهم، كقوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}، ومن الأدلة كذلك قوله تبارك وتعالى: {هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما﴾ [ الفتح: ٢٥]، الشاهد في هذه الآية أن الله وتعالى قيد الرجال والنساء بصفة الإيمان فقال: {ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات} قيدهم بصفةالإيمان ليخرجوا من عموم الكفر في قوله تبارك وتعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ}، ثم قال: {لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ} “لم تعلموهم” لاختلاطهم بالمشركين وهم يكتمون إيمانهم فيجري عليهم حكم الكفار من القتل ونحوه، “أَن تَطَئُوهُمْ” يعني: أن تقتلوهم تبعا لقومهم، روى الطبري بسنده عن ابن إسحاق في قوله “فتصيبكم منهم معرة بغير علم” قال: فتخرجوا ديته، فأما إثم فلم يحسبه عليهم. والمعرّة: هي المفعلة من العرّ، وهو الجرب وإنما المعنى: فتصيبكم من قبلهم معرّة تعرّون بها يلزمكم من أجلها كفَّارة قتل الخطأ” تفسير الطبري، هذه الآية فيها دلالة عظيمة على أن المؤمن المستخفي الذي يكتم إيمانه بين قوم كافرين أو في دار الكافرين يجري عليه اسم الكفر وحكمه في علم المكلف، لأن المكلف لا يستطيع أن يميز بينه وبين قومه المشركين لأنه يستخفي بالإيمان، فلو أظهر إيمانه لتعلق الحكم بذلك الظاهر، أما كونه يخفي إيمانه فهو تبع لقومه في علم المكلف، والمكلف لم يؤمر بالتنقيب عن قلوب الناس في دار الكفر لينظر المؤمن من الكافر فهذا من التكليف بما لا يطاق، هذا المؤمن باطنا والذي يستخفي بإيمانه ويظهر الموافقة لقومه فحكمه حكم قومه، يؤيد ذلك ما رواه محمد بن إسحاق كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يَا عَبَّاسُ افْدِ نَفْسَكَ، وَابْنَ أَخِيكَ عَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَنَوْفَلَ بْنَ الْحَارِثِ، وَحَلِيفَكَ عُتْبَةَ بْنَ عَمْرِو بْنِ جَحْدَمٍ أَخَا بَنِي الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ، فَإِنَّكَ ذُو مَالٍ» قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي كُنْتُ مُسْلِمًا، وَلَكِنَّ الْقَوْمَ اسْتَكْرَهُونِي، قَالَ: «اللهُ أَعْلَمُ بِإِسْلَامِكَ، إِنْ يَكُ مَا تَذْكُرُ حَقًّا فَاللهُ يُجْزِيكَ بِهِ، فَأَمَّا ظَاهِرُ أَمْرِكَ فَقَدْ كَانَ عَلَيْنَا، فَافْدِ نَفْسَكَ» [الطبقات الكبرى]، ففي هذه الصورة النبي صلى الله عليه وسلم استصحب فيه حكم قومه وألحقه بقومه المحاربين، ولم يعتبر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: “إني كنت مسلما”، فهذا الظاهر غير معتبر في مثل هذه الصورة، وكذلك دعواه الاستكراه إنما هي دعوى غير معتبرة في مثل هذا الحال، وهو ظاهر غير معتبر في مثل هذه الصورة ويلحق بقومه المحاربين.
من الأدلة كذلك قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة ١٠]، يقول الطبري: “وقوله: ( اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ ) يقول: الله أعلم بإيمان من جاء من النساء مهاجرات إليكم. وقوله: ( فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ) يقول: فإن أقررن عند المحنة بما يصحّ به عقد الإيمان لهنّ، والدخول في الإسلام، فلا تردوهنّ عند ذلك إلى الكفار” تفسير الطبري، فالله تبارك وتعالى أمر بالامتحان في مثل هذه الصورة، للتحقق من الإيمان الظاهر لقدومهن من دار الكفر، فالمهاجرة قدمت من دار الكفر إلى دار الإسلام، فكيف يتم الانتقال من الأصل المستصحب في الدار القادمين منها إلى الظاهر المناط به الحكم؟ يكون ذلك بالامتحان، {فإن علمتموهن مؤمنات} يعني: ما يتعلق به علم المكلف، وذلك بإظهارها مخالفة قوم الكافرين، فعند ذاك نحكم بإيمانها ظاهرا، وأما الباطن فأمره إلى الله تبارك وتعالى، كما في قوله: {الله أعلم بإيمانهن} فهذا لا يتعلق به التكليف، وعليه فإن هذه الآية فيها معنى استصحاب حكم القوم لمن خرج منهم يريد الإسلام إلى دار الإسلام، وفيه أن الظاهر المعتبر في مثل هذه الصورة هو مايحصل به الامتحان وهو إظهار المخالفة للقوم الكافرين.

سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْتَحِنُ النِّسَاءَ؟ قَالَ:« كَانَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا جَاءَتِ النَّبِيَّ ﷺ حَلَّفَهَا عُمَرُ بِاللَّهِ مَا خَرَجَتْ رَغْبَةً بِأَرْضٍ عَنْ أَرْضٍ، وَبِاللَّهِ مَا خَرَجَتْ مِنْ بُغْضِ زَوْجٍ، وَبِاللَّهِ مَا خَرَجَتِ الْتِمَاسَ دُنْيَا، وَبِاللَّهِ مَا خَرَجَتْ إِلا حُبًّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» تفسير ابن أبي حاتم، فمشركو قريش كانوا يبغضون النبي صلى الله عليه وسلم ويعادونه ويقاتلونه، فلا شك أنها إذا أظهرت حب النبي صلى الله عليه وسلم هذا ظاهر معتبر في ذلك وهو إظهار مخالفة القوم المشركين في مكة، وهذه الأدلة بإذن الله فيها كفاية لمن أنار الله عز وجل قلبه بنور الوحي، أما من ألقى إلى طواغيت العلم في هذا الزمان فهذا لا شك أن قلبه سيظلم وسيصير مستودعا للشبهات والاعتذارات لهذه الأقوام والله المستعان.
• هناك شبهة كذلك ابتدعها كثير من المتأخرين، وهي الدار المركبة من الإسلام والكفر، ونحن نقول وبالله التوفيق: أن هذه الدار ليست قسيمة للدارين، والديار في الإسلام داران لاثالث لهما، ولم يعرف في عهد السلف ومن جاء بعدهم هذه الدار، فهي دار محدثة، ونقول فيها ما روي عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد” متفق عليه، فالأصل في ذلك والمتقرر عند السلف أن الدار دران: دار إسلام، ودار كفر
وأما هذه فدار حادثة لااعتبار لها وليس هناك قسيم بين الدارين في حقيقة الأمر، لأن دار الإسلام إذا ظهر عليها وغلب الكفار وجندهم، فإما مآلها بعد ذلك إلى الكفر أو إلى الإسلام، وذلك أن المسلمين في تلك الدار إما أن يسكنوا ولا يقاتلوا ولا يدفعوا ولا يناجزوا الكفار استحبابا منهم للحياة الدنيا وإيثارا منهم للمساكن والمتاع فيخلدون إلى الأرض، وبالتالي سيدخلون في طاعة الطواغيت، واتباع شرائع الكافرين، فتجري عليهم بعد ذلك أحكام الكفرة ظاهرا، كما حصل في كثير من الديار كالأندلس ونحوها…
وإما أن هؤلاء المسلمون في تلك الدار التي ظهر عليها جند الكفار يقاتلون هؤلاء الكفار ويناجزونهم حتى يفتح الله تبارك وتعالى بينهم وبين عدوهم، فإن ظهر المسلمون أعادوا السلطان لله تبارك وتعالى، وعادت الدار إلى الإسلام، أما إن دحروا وغلبوا فسينحازون إلى المسلمين، ولا يبقون تحت طاعة الكافرين، يقول ابْن عُيَيْنَةَ: «أَتَدْرُونَ مَا مَثَلُ الْعِلْمِ؟ مثلُ الْعِلْمِ مِثْلُ دَارِ الْكُفْرِ، وَدَارِ الْإِسْلَامِ, فَإِنْ تَرَكَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ الْجِهَادَ جَاءَ أَهْلُ الْكُفْرِ فَأَخَذُوا الْإِسْلَامَ, وَإِنْ تَرَكَ النَّاسُ الْعِلْمَ صَارَ النَّاسُ جُهَّالًا» حلية الأولياء، فيرتفع الإسلام من تلك الدار إن ترك أهلها الجهاد، فيصير الأصل في أهلها الكفر.
ونقول: أن الديار اليوم قد مر عليها عقود متوالية منذ أن غزاها الكفار وعلاها قانون الغرب، بل إن في بعض الديار قد مر عليها قرون منذ أن ارتفع فيها الإسلام، ومع ذلك لاتزال جماعة التركيب يؤصلون فيها الدار المركبة، والجيل الذي حصل فيه التركيب قد مر عليه قرون من الزمن، وهذا الجيل الذي حصل فيه التركيب كما يزعم هؤلاء قد اندثر من غابر الزمان، فمتى تنتهي صلاحية التركيب وتنقضي مدة الكفر الطارئ عندكم والله المستعان، فالناس اليوم في حقيقة أمرهم قد انسلخوا من دين الإسلام وانصهروا في الكفر المبين، وتركوا الإسلام من غابر الزمان، حيث أنك لا تفرق الآن بين شوارع هذه البلدان العربية وشوارع البلدان الغربية، ولا يزال طواغيت العلم في هذا الزمان يصححون إسلام هذه الأقوام ويسمونهم بالمسلمين فحسبنا الله ونعم الوكيل.

  • نقف هنا سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.

•📜 انتهى الدرس التاسع بحمد الله 🖋️.

سراج الطريق

نحن نزاعٌ من القبائل حققوا البراءة من هذه الجاهلية النكراء … نحن الغرباء الذين تقلدوا لواء الإصلاح … بقايا الحنفاء من يُصلحون إذا فسد الناس … نحن القلة المستضعفة … القلة التي تفر بدينها … القلة السالكة المستوحشة … الحاملون لجراح أمتهم … سراج الظلم في تيه الجاهلية … الأمل في عود الضياء … عِصابة المسلمين وعصارة الموحدين في زمن أقفر ما بين لبنتيها من المسلمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى