السلاسل العلميةسلسة الهداية في بيان حد الإسلام وحقيقة الإيمان بين التأصيل والتنزيل

الحاكميّةُ: الدّرسُ الرّابعُ: الجزء الثّاني

الجزءُ الثّاني: التّلازمُ بينَ الحاكمية والعبودية

بسْمِ الله الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ الحَمْدُ لِله رَبِّ العَالَمِينَ وَالصَّلَاة وَالسَّلَام عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وَعَلى آلِه وَصَحْبِه وَالتَّابِعِينَ أَمَّا بَعْدُ…
فَلَا يَزَالُ حَدِيثُنَا مُتَوَاصِلا فِي بَيَانِ مَنْزِلَةِ الحُكْمِ وَالحَاكِمِيَّةِ فِي دِينِ الله تَعَالَى، وَهُنَا نُقَرِّرُ مَسْأَلَةً عَظِيمَةً وَهِيَ: التَّلَازُمُ بَيْنَ الحَاكِمِيَّةِ وَالعُبُودِيَّةِ لِله، قَالَ تَعَالَى: { إِنِ الحُكْمُ إِلَّا لِله أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَٰلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٤٠)}، هَذَا النَّص مِنْ سُورَةِ يُوسُف -عَلَيْهِ السَّلَام- يُبَيِّنُ بِجَلَاءٍ وَوُضُوحٍ التَّلَازُمَ بَيْنَ العُبُودِيَّةِ وَالحَاكِمِيَّةِ، فَحِينَما يَتَصَوّرُ المَرْءُ مَعْنَى العِبَادَةِ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ مِن المَعْنَى الشُّمُولِيّ لَهَا يَفْهَمُ لِمَاذَا جَعَلَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ- اخْتِصَاصَ الله بِالعِبَادَةِ تَعْلِيلًا لِاخْتِصَاصِهِ بِالحُكْمِ فِي مَقَامِ الدَّعْوَةِ إِلَى الإِسْلَامِ.

فَنَقُولُ: أَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَقُومُ بِكَمَالِهَا وَ شُمُولِهَا إِلَّا إِذَا كَانَ الحُكْمُ لِله، أَمَّا إِذَا كَانَ الحُكْمُ لِغَيْرِ الله فَلَا تَقُومُ العُبُودِيَّةُ بِشُمُولِهَا وَعُمُومِهَا، فَالدِّينُ القَيِّمُ كَمَا سَبَقَ مَعَنَا ذِكْرُهُ يَقُومُ عَلَى أَصْلَيْنِ وَهُمَا: إِفْرَادُ الله بِالعِبَادَةِ، وَإِفْرَادُهُ بِالحُكْمِ وَالطَّاعَةِ وَلَا دِينَ لِله عزّ وجلّ سِوَاهُ، فَالدِّينُ القَيِّمُ هُوَ الذِي يَتَحَقَّقُ فِيهِ اخْتِصَاصُ الله بِالحُكْمِ تَحْقِيقًا لِاخْتِصَاصِهِ بِالعِبَادَةِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَت الحَاكِمِيَّةُ فِي الأَرْضِ لِغَيْرِ الله كَانَ الأَمْرُ، وَالنَّهْيُ، وَالحُكْمُ، وَالتَّشْرِيعُ لِغَيْرِه، وَبِالتَّالِي ستَكُونُ الطَّاعَةُ وَالْعُبُودِيَّةُ لِغَيْرِه تَعَالَى، لِأَنَّهُ يَجْرِي عَلَى النَّاسِ حُكْمُ الطَّوَاغيت، وَيَدِينُونَ لِدِينِهِ طَائِعِينَ، وَيَنْقَادُونَ لِأَمْرِهِ خَاضِعِينَ، فَالنَّاسُ عَلَى دِينِ مُلُوكِهَا مُنْقَادَةٌ، كما قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: “يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ تَكُونُ السُّنَّةُ فِيهِ بِدْعَةً، وَالبِدْعَةُ فِيهِ سُنّة، وَالمَعْرُوفُ مُنْكَرًا وَالمُنْكَر مَعْرُوفًا، وَذَلِكَ إِذَا اتَّبِعُوا وَاقْتَدَوا بِالمُلُوكِ وَالسَّلَاطِينِ فِي دُنْيَاهُمْ..” رواه ابن وضّاح في البِدع، فَالحُكْمُ بِغَيْرِ شَرْعِ الله وَدِينِهِ يَهْدِمُ الإِسْلَامَ، كَمَا رُوِيَ عَنْ زِيَادِ بْنِ حُدَيْرٍ قَالَ: “قَالَ لِي عُمَرُ رَضِيَ الله عَنْهُ: هَلْ تَعْرِفُ مَا يَهْدِمُ الإِسْلَامَ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا! قَالَ: يَهْدِمُهُ: زَلَّةُ العَالِمِ، وَجِدَالُ المُنَافِقِ بِالكِتَابِ، وَحُكْمُ الأَئِمَّةِ المُضِلِّينَ))رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ، فإِذَا كَانَ حُكْمُ الأَئِمَّةِ المُضِلِّينَ يَهْدِمُ الإِسْلَامَ، فَكَيْفَ بِالأَئِمَّةِ والطَّوَاغِيتِ المُبَدِّلِينَ؟ ..

فالطَّاغُوت وَالجَاهِلِيَّة وَعُمُومُ الشِّرْكِ وَالكُفْرِ لَا تقُوم فِي الأَرْضِ إِلَّا مَعَ غَيْبَةِ الدِّينِ القَيِّمِ وَذَهَابِهِ وَانْتِفَاءِ العَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ مِنْ قُلُوبِ النَّاسِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَقُومَ الجَاهِلِيَّةُ وَقَد اسْتَقَرَّ فِي قُلُوبِ النَّاسِ عَقْدًا أَنَّ الحُكْمَ لِله وَحْدَهُ لِأَنَّ العِبَادَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا لِله دُونَ مَاسُوَاهُ، فَلَمَّا فَصَلَ طَوَاغِيت العِلْمِ بَيْنَ الحُكْمِ وبين العبادةِ صَارَ الدِّينُ عِنْدَ النَّاسِ هُوَ: إِفْرَادُ الله بِالعِبَادَةِ الَّتِي يَظُنُّونَ أَنَّهَا فقط: إِفْرَادُهُ بِالنُّسُكِ، وَالصَّلَاةِ، وَالرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ، وَلَو اسْتَقَرَّ فِي قُلُوبِ النَّاسِ أَنَّ الحُكْمَ لِله وَحْدَهُ وَالعِبَادَة كَذَلِكَ لَهُ وَحْدَهُ دُونَ مَا سِوَاهُ لَكَانَ الأَمْرُ أَو الوَاقِعُ قَد اخْتَلَفَ كَثِيرًا عَمَّا نَعِيشُهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ.

وقد سَبَقَ مَعَنَا بَيَانُ أَنَّ الْخُضُوعَ وَالِاسْتِكَانَةَ، وَالذِّلَّةَ، وَامْتِثَال الأَمْرِ يَكُونُ لِله وَحْدَهُ، وَهَذِهِ المَعَانِي بِشُمُولِهَا تَكُونُ له وَحْدَهُ دُونَ مَا سِوَاهُ .
وَنَقُولُ: بِأَنَّ الخُضُوعَ لِلحُكْمِ عِبَادَةٌ، بَلْ هُوَ أَصْلًا مَدْلُولُ العِبَادَةِ، فَالطَّاغُوتُ لَا يَقُومُ فِي الأَرْضِ إِلَّا مُدَّعِيًا حَقَّ الرُّبُوبِيَّةِ الذِي هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، أَيْ تَعْبِيدُ النَّاسِ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَشَرْعِهِ، وَإخضَاعِهِمْ لِفِكْرِهِ، وَ تَصَوُّرِهِ، وَقَانُونِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ
فِرْعَوْن: {فَاسْتَخَفّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ(٥٤)} الزُّخرف، فَالعَلَاقَةُ بَيْنَ العُبُودِيَّةِ وَالحَاكِمِيَّة هِيَ: التَّلَازُمُ، لِأَنَّ العُبُودِيَّةَ لَاتقُومُ لِلهِ فِي الأَرْضِ كَامِلَةً فَيَعِيش العَبْدُ فِي الأَرْضِ حُرًّا مِنْ رِبْقَةِ العُبُودِيَّةِ لِلطَّوَاغِيتِ إِلَّا تَحْتَ نِظَام حَاكِمٍ بِمَا أَنْزَلَ الله، حَيْثُ يَتَحَقَّقُ فِيهِ إِفْرَادُ اللهِ بِالطَّاعَةِ، وَالِاتِّبَاعِ، وَالخُضُوعِ، وَالِانْقِيَادِ، وَتَلَقِّي المَنْهَجِ مِن الله وَحْدَه، فَالعَبْدُ لَا يَكُونُ عَبْدًا لِله إِلَّا تَحْتَ ظِلِّ هَذَا النِّظَامِ الحَاكِمِ بِمَا أَنْزَلَ الله، وبذلك يَقُومُ الدِّينُ القَيِّمُ وَتَقومُ الْحَاكِمِيَّةُ وَالسُّلْطَانُ لِله، وَعِنْدَهَا تَتَحَقَّقُ العُبُودِيَّةُ لِله كَامِلَةً بِالِانْقِيَادِ لشَرْعِه وَامْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَتَكُونُ الحَيَاةُ كُلُّهَا لله تَعَالَى، قَالَ الله تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۚ وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِله رَبِّ العَالَمِينَ (١٦٢) لاشَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ (١٦٣)} الأنعام، هَذَا هُوَ الصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ، وَهَذِهِ هِيَ المِلَّةُ الحَنِيفِيَّةُ وَالدِّينُ القَيِّمُ الذي تكُونُ فِيه الصَّلَاةُ، وَالنُّسُكُ، وَالرُّكُوعُ، والسُّجُودُ، وَكَذَلِك الحَيَاةُ وَالمَمَاتُ وَكُلّ شُئُونِ الْحَيَاةِ لِله عزّوجلّ، لأنَ الله عزّوجلّ لَمْ يَتْرُكِ العِبَادَ هَمَلًا يَسْتَمِدُّونَ الأَحْكَامَ مِنْ عُقُولِهِمْ، أَوْ مِنْ آرَائِهِمْ، أَوْ مِن أَذْوَاقِهِمْ، بل جَعَلَ الدِّينَ كَامِلا وَأَتَمَّ النِّعْمَةَ عَلَى عِبَادِهِ وَفَصَّلَ لَهُمُ الأَحْكَامَ وَجَعَلَ لَهُمْ مَخْرَجًا مِنْ كُلِّ مَا يَعْرِضُ لَهُمْ مِنْ مُشْكِلَاتِ الحَيَاةِ، فَفَصَّلَ كِتَابَهُ العَزِيزَ وَأَحْكَمَهُ وَأَتَمَّ بَيَانَهُ وَبَيَّنَهُ، قَالَ تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَانًا لكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ(٨٩)} النّحل، وقال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(٥٢)} الأعراف، وأمَر اللهُ بِرَدِّ جميعِ الأمور المتنازعِ عليها لشرعِ اللهِ، ولو تنازعَ النّاسُ في عودِ أرَاك، قال تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْء (شيء :نكرة في سياق الشّرط فتعمّ) فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله وَاليَوْمِ الآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا (٥٧)} النّساء، فَعَلَّقَ الله الرَّدَّ لَهُ بِوُجُودِ الإِيمَانِ، فَإِنْ كَانَ الإِيمَانُ وُجِدَ الرَّدُ، وَ إِن انْتَفَى الإِيمَانُ انتفى الرَّدُ، وَرَتَّب انْتِفَاءَ الإِيمَانِ بِانْتِفَاءِ الرَّدّ، بَلْ ذَكَر المَوْلَى تَعَالَى آيَةً صَرِيحَةً وَاضِحَةً بَيِّنَةً فَأَقْسَمَ بِذَاتِهِ العِلِيَّة وَأَكَّدَها بِالمُؤَكّدَاتِ، قَالَ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا(٦٥)} النّساء، فَآيَاتُ الحُكْمِ وَالحَاكِمِيَّةِ فِي دِينِ اللهِ مِنْ أَوْضَح الآيَاتِ وَأَصْرَحِهَا وَأَبْيَنِهَا، فَتَجِدُ النَّاسَ يُنَازِعُونَ فِيهَا وَيُجَادِلُونَ وَيَلْتَمِسُونَ المَخَارِجَ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ العَظِيمِ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ .
▪نَقُولُ: إِنَّ التَّصَوُّرَ الصَّحِيحَ لِلإِسْلَامِ الذِي يَجِبُ بِنَاؤُهُ فِي نُفُوسِ المُخَاطَبِينَ بهَذَا الدِّينِ العَظِيمِ هُوَ إِفْرَادُ الله بِالحُكْمِ وَالطَّاعَةِ كَإِفْرَادِهِ تَعَالَى بِالعِبَادَةِ وَالعُبُودِيَّةِ فَهَذَا هُوَ التَّصَوُّرُ الذِي يَجِبُ بِنَاؤُهُ فِي نُفُوسِ المُخَاطَبِينَ بهَذَا الدِّينِ، حَتَّى يَنْطَلِقُوا بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى إِقَامَةِ الدِّينِ بِشُمُولِيَّتِهِ التِي لَا يَقُومُ إِلَّا بِهَا فِي الأَرْضِ، إِذْ لَا تَصِحُّ العُبُودِيَّةُ مُجَزَّأَةً أو مُبَعَّضَةً، كَأَنْ تَكُونَ بَعْضُ العُبُودِيَّةِ كالصَّلَاةِ، وَالرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ، وَالطَّهَارَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لِله، وَبَعْض العُبُودِيَّةِ كالخُضُوعِ بِالحُكْمِ، وَالطَّاعَةِ تَكُونُ لِلطَّوَاغِيتِ، فالدِّينُ لَا يَكُونُ أَبَدًا هَكَذَا، بَلْ هَذَا الذِي يَبْغِيهِ طَوَاغِيتُ العَلم فِي هَذَا الزَّمَانِ وَهَذَا الَّذِي أَصَّلوا لَهُ وَرَسَّخُوهُ فِي قُلُوبِ هَؤُلَاءِ النَّاسِ الجَاهِلِيِّينَ حَتَّى اسْتَسَاغُوا فَصْلَ الدِّينِ عَنْ جَمِيع شُئُون الحَيَاةِ، وقالوا كما قال أسلافُهم:

{وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا (١٥٠) أُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقا ۚ وَأَعْتَدْنَا لِلكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا (١٥١)} النّساء.
▪نَقُولُ أَنَّ ارْتِفَاعَ سُلْطَانِ الله مِنَ الأَرْضِ دَلَالَةٌ عَلَى انْتِفَاءِ العُبُودِيَّةِ الكَامِلَةِ عِنْدَ الأَفْرَادِ لِانْتِفَاءِ الِانْقِيَادِ وَالِاتِّبَاعِ لِشِرْعَةِ الله وَالمِنْهَاجِ الرَّبَّانِيِّ مَعَ اتِّخَاذِ الشُّرَكَاءِ، وَالأَرْبَابِ، وَالأَنْدَادِ، فِي الطَّاعَةِ وَالتَّلَقِّي عَنْهُمْ، وَاتِّبَاعِ مَنَاهِجِهِمْ، وَالخُضُوعِ لِدِينِهِمْ، وَالِانْقِيَادِ لِشَرَائِعِهِمْ، وَقِيَامِ الجَاهِلِيَّةِ بِأَوْضاعِهَا فِي الأَرْضِ كَمَا سَبَقَ مَعَنَا، لِذَلِكَ تَوَاتَرَ النَّقْلُ عَن الفُقَهَاءِ وَالعُلَمَاءِ حِينَمَا يَتَكَلَّمُونَ عَنْ ضَابِطِ دَارِ الكُفْرِ وَدَارِ الإسْلَامِ فَيَجْعَلُونَ هَذَا الضّابِطَ فِي عُلُوِّ الأَحْكَامِ، فَإِنْ كَانَت أَحْكَامُ الإِسْلَامِ ظَاهِرَةً فَالدَّارُ دَارُ إِسْلَامٍ، وَإِن كَانَتْ أَحْكَامُ الكُفْرِ ظَاهِرَةً فَالدَّارُ دَارُ كُفْرٍ، فَعُلُوّ الأَحْكَام هُوَ الَّذِي تَتَمَيَّزُ بِهِ دَارُ الإِسْلَامِ عَنْ دَارِ الكُفْرِ، لِأَنَّ الحَاكِمِيَّةَ تُعرف بِعُلُوِّ الأَحْكَامِ، لِمَنِ الحُكْمُ فِي هَذِهِ الدَّارِ هَلْ هُوَ لِله تبارك وتعالى أَوْ لِمُلُوكِ الأَرْضِ؟.. عِنْدَ ذَاك نَعْرِفُ المَحْكُومِينَ هَلْ هُمْ عِبَادٌ لِله أَمْ عِبَادٌ لِمُلُوكِ الأَرْضِ، لِأَنَّ مَنْ يَكُونُ لَهُ الحُكْمُ تَكُونُ لَهُ الطَّاعَةُ وَالِانْقِيَادُ وَاَلَّتِي هِيَ مَدْلُولُ العِبَادَةِ، فَبِهَذِهِ القَضِيَّة العَظِيمَةِ نَزَلَت الكُتُبُ وَأُرْسِلَت الرُّسُلُ وَالتِي هِيَ -إِفْرَادُ اللهِ تَعَالَى- بِالحُكْمِ وَ الطَّاعَةِ وَالِاتِّبَاعِ حَتَّى تَكُونَ العُبُودِيَّةُ خَالِصَةً لَهُ وَحْدَهُ دُونَ مَا سِوَاهُ مِن الأَرْبَابِ وَالأَنْدَادِ وَالطَّوَاغِيتِ، وَهَذِهِ الحَقِيقَةُ وَالقَضِيَّةُ صَارَتْ مُغَيَّبَةً عَنْ عُمُومِ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ الله، وَقَدْ حَرَّفَهَا طَوَاغِيتُ العِلْمِ فِي هذا الزّمان لِيَسْتَطِيعُوا العَيْشَ فِي هَذِهِ الجَاهِلِيَّةِ النَّكْرَاء بِبَعْضِ الدِّينِ أَوْ بِبَعْضِ العُبُودِيَّةِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا إِسْلَامًا وَتَوْحِيدًا زُورًا وَبُهْتَانًا، وَهُمْ يَعْرِفُونَ جَيِّدًا أَنَّ الدِّينَ القَيِّمَ بِشُمُولِيَّتِهِ يُنَازِعُ مُلُوكَ الأَرْضِ وَلَا يُجَامِعُ البَاطِلَ، وَلَا يَقُومُ هَذَا الدِّينُ القَيِّمُ إِلَّا بِزَوَالِ الطَّاغُوتِ وَسُلْطَانِهِ مِن الأَرْضِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَسْتَطِيعُوا حَمْلَ هَذَا الدِّينِ عَلَى أَكْتَافِهِمْ وَكَوَاهِلِهِمْ فَأَلْقَوْا بِهِ وَلَمْ يَتَوَقَّفُوا عِنْدَ هَذَا، بَلْ قَرَّرُوا لِلنَّاسِ دِينًا آخر سَمَّوْهُ إِسْلَامًا وَأَدْخَلُوا فِيهِ النَّاسَ أَفْوَاجًا، فَغَيَّرُوا وَبَدَّلُوا وَكَانُوا أَعْظَمَ بَلَاء عَلَى هَذِهِ الأمّة مِنْ طَوَاغِيتِ الحُكْمِ، لقَدْ ضَيَّعُوا الدِّينَ وَ عَظُمَتْ بِهِم المِحْنَةُ وَالفِتْنَةُ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَلَمْ يَعْمَلُوا بِوَصِيَّةِ النَّبِيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، كَمَا رُوِيَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:《”أَلا إِنَّ رَحَى الإِسْلَام دَائِرَةٌ، فَدُورُوا مَعَ الكِتَابِ حَيْثُ دَارَ، أَلَا إِنَّ الكِتَابَ وَ السُّلْطَانَ سَيَفْتَرِقَانِ، فَلَا تُفَارِقُوا الكِتَابَ، أَلَا إِنَّهُ سَيَكُونُ أُمَرَاءُ يَقْضُونَ لَكُمْ، فإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ أَضَلُّوكُمْ، وإِنْ عَصَيْتُمُوهُمْ قَتَلُوكُمْ”، قَال: يَا رَسُولَ الله، فكَيْفَ نَصْنَعُ؟ قَالَ: “كَمَا صَنَعَ أَصْحَابُ عِيسَى بْن مَرْيَمَ، نُشِرُوا بِالمَنَاشِيرِ، وَحُمِلُوا عَلَى الخَشَبِ، مَوْتٌ فِي طَاعَةِ الله خَيْرٌ مِنْ حَيَاةٍ فِي مَعْصِيَةِ الله”》 رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ، فَالدِّينُ الْقَيِّمُ وَالدَّعْوَةُ الحَنِيفِيَّةُ إِذَا قَامَتْ بِشُمُولِهَا وَعُمُومِهَا وَحَقِيقَتِهَا فِي أَرْضِ الله اسْتَدْعَت الخُصُومَةَ الشَّدِيدَةَ مِنَ المَلَأ وَأَصْحَابِ النُّفُوذِ وَأَصْحَابِ السُّلْطَانِ وَطَوَاغِيتِ الأَرْضِ، لِذَلِكَ كَانَت المُدَافَعَةُ وَالحَرْبُ الشَّدِيدَةُ الشَّرِسَةُ قَائِمَة مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ ظَهَرَتْ فِيهِ تِلْكَ الدَّعَوَاتُ فِي تِلْكَ الأَقْوَامِ الَّتِي بُعِثَتْ فِيهَا الرُّسُلُ وَالأَنْبِيَاءُ، فَإِعْلَانُ هَذِهِ الدَّعْوَة وَالصَّدْع وَالجَهْر بِهَا هُوَ بِمَثَابَةِ تَجْرِيدٍ لِمُلُوكِ الأَرْضِ مِنْ سُلْطَانِهِمْ، لِأَنَّهُمْ سَوْفَ يَخْسَرُونَ كُلَّ هَذِهِ الوَجَاهَة وَالسُّلْطَان وَهَذِهِ المَنْزِلَة وَالمَكَانَةِ بَيْنَ أَقْوَامِهِم وَسَيُجَرَّدُونَ مِنْهَا وَيَكُونُ حِينَهَا الحُكْمُ وَالخُضُوعُ لِله لَا إِلَى أَشْخَاصِهِمْ وَلَا إِلَى سُلْطَانِهِمْ، فَإِعْلَانُهَا بِمَثَابَةِ تَجْرِيدِ مُلُوكِ الأَرْضِ مِنْ سُلْطَانِهِم المُسْتَمَدّ مِنْ أَهْوَائِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَن اعْبُدُوا الله فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ(٤٥)} النّمل، أي: حَقِّقُوا العبوديّة بشموليّتها، ثم قال تعالى: {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} فَوَقَعَت الخُصُومَةُ بَعْدَ إِعْلَانِ الدَّعْوَةِ، وَهو صِرَاعٌ حَتْمِيّ بَيْنَ الفَرِيقَيْنِ، وَهُمَا أَوْلِيَاءُ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءُ الشَّيْطَانِ وَصِدَام مُتَوَاصِل إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُوا (٢١٧)}البَقَرَة، فَإِذَا رَأَيْتَ الهُدْنَةَ بَيْنَ فَرِيقَيْنِ فَاعْلَمْ أَنَّهُمَا فَرِيقٌ وَاحِدٌ، فهَذِهِ هِيَ حَقِيقَةُ الدَّعْوَةِ وَطَبِيعَةُ الحَرَكَةِ، خَاصَّةً فِي آخِرِ الزَّمَانِ، فَكَيْفَ يَكُونُ العُلَمَاءُ فِي جِهَةٍ وَالطَّوَاغِيتُ فِي جِهَةٍ أُخْرَى وَهُمْ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ؟!!!! فلا شك أَنَّهُمْ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ، وهَذِهِ المَعَانِي الَّتِي ذَكَرْنَا كَانَتْ مُتَقَرّرةً عِنْدَ الصَّحَابَةِ وَ التَّابِعِينَ، وَأَمْرٌ مِن بَدِيهِيَّاتِ هَذَا الدِّينِ ومِن أصولِه وَلَا يُشَكِّكُ فِيهِ أَحَدٌ، لِذَلِكَ رُوي في تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (٦٠)}النّساء، ((أَخْرَجَ الثَّعْلَبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُم آمَنُوا} قَالَ: “نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ المُنَافِقِينَ، يُقَالُ لَهُ: بِشْرٌ خَاصَمَ يَهُودِيًّا، فَدَعَاهُ اليَهُودِيُّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَعَاهُ المُنَافِقُ إِلَى كَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ(سيّد اليهودِ وكَان هُو الذي يُتحاكم إليهِ مِن دونِ اللهِ تباركَ وتعالى وكان طاغوتًا من الطّواغيتِ، لذلك ورد في تفسير الطّاغوتِ بكعبِ بن الأشرف عن عبدِ اللهِ بنِ عبّاس وجابرِ بن عبدِ اللهِ وغيرهم من السّلف) ثُمَّ إِنَّهُمَا احْتَكَمَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَضَى لِلْيَهُودِيِّ فَلَمْ يَرْضَ المُنَافِقُ، وَقَالَ: تَعَالَ نَتَحَاكَم إِلَى عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، فَقَالَ اليَهُودِيُّ لِعُمَرَ: قَضَى لَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَرْضَ بِقَضَائِهِ، فَقَالَ لِلمُنَافِقِ: أَكَذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ عُمَرُ: مَكَانَكُمَا حَتَّى أَخْرُجَ إِلَيْكُمَا، فَدَخَلَ عُمَرُ فَاشْتَمَلَ عَلَى سَيْفِهِ، ثُمَّ خَرَجَ فَضَرَبَ عُنُقَ المُنَافِقِ حَتَّى بَردَ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا أَقْضِي لِمَنْ لَمْ يَرْضَ بِقَضَاءِ الله وَرَسُولِهِ فَنَزَلَتْ))الدرّ المنثور، فَهَذَا هُوَ قَضَاءُ الصَّحَابَةِ فِيمَنْ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ الله وَرَسُولِهِ، وَلِمَنْ تَحَاكَمَ لِغَيْرِ الله ورسوله، ولمن اتَّبَعَ غَيْرَ شِرْعَةِ الله وَشِرْعَةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

▪نقفُ عندَ هذا سبحانكَ اللّهمّ وبحمدكَ أشهدُ أن لا إلهَ إلّا أنتَ أستغفركَ وأتوبُ إليكَ.
▪▪يتبع الجزء الثالث إن شاء الله ••• ▪▪

سراج الطريق

نحن نزاعٌ من القبائل حققوا البراءة من هذه الجاهلية النكراء … نحن الغرباء الذين تقلدوا لواء الإصلاح … بقايا الحنفاء من يُصلحون إذا فسد الناس … نحن القلة المستضعفة … القلة التي تفر بدينها … القلة السالكة المستوحشة … الحاملون لجراح أمتهم … سراج الظلم في تيه الجاهلية … الأمل في عود الضياء … عِصابة المسلمين وعصارة الموحدين في زمن أقفر ما بين لبنتيها من المسلمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى