بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالصَّلَاة وَالسَّلَام عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ أمّا بعدُ…
سَبَقَ الْحَدِيث فِي التّلَازُمِ بَيْنَ الْحَاكِمِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، وَنُقَرِّرُ هَاهُنَا مَسْأَلَةً مُهِمَّةً قَدْ غَلط فِيهَا الْكَثِيرُ مِن النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَحَمَلُوهَا عَلَى غَيْر مَحْمَلِهَا، وهِيَ قَضِيَّةُ الْحُكْمِ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ فِي الْقَضِيَّةِ لِرِشْوَةٍ وَنَحْوِهَا، نَقُولُ بِأَنَّ اللهَ جَلَّ جَلَالُهُ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ حَكَمًا بَيْنَ النَّاسِ قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَٰلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا ۚ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (٣٧)} الرَّعْدُ، وَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ(٢٥)} الْحَدِيد، وَقَالَ تَعَالَى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ (٢١٣)}الْبَقَرَة، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ ۚ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (١٠٥)}النِّسَاء، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: “يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} يَا مُحَمَّدُ {الْكِتَابَ} يَعْنِي: الْقُرْآنَ {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ} لِتَقْضِيَ بَيْنَ النَّاسِ فَتَفْصِلَ بَيْنَهُمْ {بِمَا أَرَاكَ اللهُ} يَعْنِي: بِمَا أنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِهِ” تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ
وَاللهُ جَلَّ جَلَالُهُ قَدْ أَمَرَ الْحُكَّامَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْأَنْبِيَاء كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ ۖ (٤٩)} الْمَائِدَة، وَقَالَ تَعَالَى: {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ۖ(١٥)} الشُّورَى، أَيْ: “فِي الْحُكْمِ كَمَا أَمَرَنِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ” قَالَهُ الْبَغَوِيّ، وَوَرَدَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ مِنْ رِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ وَمُسْلِمٌ قَالَ: “لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللهِ”، قَالَ الْحَسَنُ: “أَخَذَ اللهُ عَلَى الْحُكَّامِ أَنْ لَا يَتَّبِعُوا الْهَوَى وَلَا يَخْشَوا النَّاسَ، وَلَا يَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا، ثُمَّ قَرَأَ: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}، وَقَرَأَ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَاتَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُم الْكَافِرُونَ} المائدة، {بِمَا اسْتُحْفِظُوا} “اسْتُودِعُوا” مِنْ كِتَابِ اللهِ، وَقَرَأَ: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِى الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} الأنبياء، فَحَمِدَ سُلَيْمَانَ وَلَمْ يَلُمْ دَاوُد وَلَوْلَا مَاذَكَر الله مِنْ أَمْرِ هَذَيْنِ لَرَأَيْتُ أَنَّ الْقُضَاةَ قَدْ هَلَكُوا فَإِنَّهُ قَدْ أَثْنَى عَلَى هَذَا بِعِلْمِهِ، وَعذرَ هَذَا بِاجْتِهَادِهِ” كِتَاب الْأَحْكَامِ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ .
•نَقُولُ: أَنَّ مَنْ تَرَكَ الْحُكْمَ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ الْحَاكِمِينَ أَصَالَةً بِكِتابِ اللهِ فَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِنَّمَا هِيَ وَارِدَةٌ فِي حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ اسْتِمْدَادُ حُكْمِهِمْ مِنْ كِتَابِ رَبِّهِمْ وَسُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَتْ صُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْحُكَّامِ الْمُبَدّلِينَ الَّذِينَ اسْتِمْدَادُ حُكْمِهِمْ مِنْ طَوَاغِيتِ الْأَرْضِ وَمُلُوكِهَا .
•نَقُولُ: أَنَّ مَنْ تَرَكَ الْحُكْمَ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ الْحَاكِمِينَ أَصَالَةً بِكِتابِ اللهِ وَسُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَطَّلَ الْحُكْمَ وَحَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ أَهْوَاءِ الْمَخْلُوقِينَ عَامِدًا عَالِمًا (بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ عَامِدًا فِي التَّعْطِيلِ وَالْحُكْمِ بِغَيْرِ ما أَنْزَلَ اللهُ عالمًا) فَعَلَ ذَلِكَ لِرِشْوَةٍ أَوْ قَرَابَةٍ أَوْ نَحْوِهَا، نَقُولُ أَنَّهُ قَدْ كَفَرَ بِاللهِ كُفْرًا مُخْرِجًا مِن الْمِلَّةِ، قَالَ السُّدِّيُّ في قولِه تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُم الْكَافِرُونَ}: “وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أُنْزلَت فَتَرَكَهُ عَمْدًا أَوْ جَارَ وَهُوَ يَعْلَمُ فَهُوَ مِن الْكَافِرِينَ بِهِ” تَفْسِيرُ الطّبريّ، قَالَ الْبَغَوِيّ: “وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: هَذَا إِذَا رَدَّ نَصَّ حُكْمِ اللهِ عيانًا عَمْدًا، فَأَمَّا مَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ أَوْ أَخطَأَ فِي تَأْوِيلٍ فَلَا” معالم التّنزيلِ، فَحَكَاهُ الْبَغَوِيّ عَن الْعُلَمَاءِ وَهَذَا قَوْلُهُمْ عُمُومًا، قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي ذِكْرِهِ لِلْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: “وَمِنْهُمْ: مَنْ تَأَوَّلَهَا عَلَى الْحُكْمِ بِمُخَالَفَةِ النَّصِّ تَعَمُّدًا مِنْ غَيْرِ جَهْلٍ بِهِ وَلَا خَطَأ فِي التَّأْوِيلِ حَكاهُ البَغويّ عن العلماء عمومًا” مدارجُ السّالكين.
نَقُولُ: هَذَا الْحُكْمُ بِمُخَالَفَةِ النَّصِّ تَعَمُّدًا مِنْ غَيْرِ جَهْلٍ بِهِ وَلَا خطَأ فِي تَأْوِيلٍ هُوَ فِي مَعْنَى الدَّفْعِ، فَمَنْ دَفَعَ شَيْئًا مِمَّا أَنْزَلَهُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَقَدْ كَفَرَ بِاللهِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ إِجْمَاعٌ حَكَاهُ إِسْحَاقُ بْن رَاهَويه رَحِمَهُ اللهُ قال: “وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ مَنْ سَبَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، أَوْ سَبَّ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ دَفَعَ شَيْئًا أَنْزَلَهُ اللهُ، أَوْ قَتَلَ نَبِيًّا مِن أَنْبِيَاءِ اللهِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُقِرٌّ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ: أَنَّهُ كَافِرٌ» التَّمْهِيد، أَمَّا مَنْ أَخْطَأَ فِي التَّأْوِيلِ أَوْ خَفِيَ عَلَيْهِ النَّصُّ وَكَانَ مُجْتَهِدًا فِي حُكْمِهِ فَهُوَ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاص أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ” متّفقٌ عليه، هَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ هُنَا فِي الْحُكْمِ فِي صُورَةِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى فَهْم الصَّحَابَةُ وَجُمْلَة مِنَ التَّابِعِينَ، نَذْكُرُ هَاهُنَا جُمْلَةً مِن الْآثَارِ فِي هَذَا الْفَهْمِ، رُوِيَ عَنْ عَلْقَمَةَ وَمَسْرُوقٍ أَنَّهُمَا سَأَلَا ابْنَ مَسْعُودٍ عَن الرِّشْوَةِ، فَقَالَ: مِن السُّحْتِ، قَالَ: فَقَالَا: وَفِي الْحُكْمِ، قَالَ: ذَاكَ الْكُفْرُ، ثُمَّ تَلَا: {وَمَنْ لَّمْ يَحكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} تَفْسِير الطّبريّ، وَهَذَا الْأَثَرُ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ فِي حُكْمِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَلَى مَنْ حَكَمَ فِي الْقَضِيَّةِ لِرِشْوَةٍ وَنَحْوِهَا أَنَّ حُكْمه الْكُفْر، وَمَنْ يَصْرِف الْكُفْرَ فِي هَذَا الْأَثَرِ إِلَى الْكُفْرِ الْأَصْغَرِ فَقَدْ تَعَنَّتَ فِي الرَّدِّ وَدَعْوَاهُ مِنْ أَبْطَل الدَّعَاوَى وَهِيَ مَرْدُودَةٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّ عَبْدَ اللهِ فَرَّقَ بَيْنَ الرِّشْوَةِ فِي الْحُكْمِ وَالرِّشْوَةِ فِي غَيْرِهِ، وَمَثَّلَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَأَعْطَى كُلَّ نَوْعٍ حُكْمًا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُغَايَرَةِ بَيْنَ الصِّنْفَيْنِ، بَيْنَ الْمَعْصِيَةِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ، فَجَعَلَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ الرِّشْوَةَ الَّتِي فِي الْحُكْمِ كُفْرًا وَالْأُخْرَى مَعْصِيَةً وَسُحْتًا، وَمِمَّا يَظْهَرُ كَذَلِكَ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا التَّعْلِيلُ، فَلَوْ كَانَتْ كَالسُّحْتِ لَأَقَرَّ السَّائِلَ ابْتِدَاءً عَلَى أَنَّ الْأُولَى لَهَا حُكْمُ الثَّانِيَةِ، وَلَكِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْوَصْفِ وَكَذَلِكَ فِي الْحُكْمِ، وَاسْتَدَلَّ فِي آخِرِ الْأَثَرِ بِقَوْلِهِ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللهُ فَأوْلَئِكَ هُم الْكَافِرُونَ}، فَظَاهِرُ الْآيَةِ التَّكْفِيرُ كَمَا يَأْتِي مَعَنَا إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، وَنَفْهَمُ كَذَلِكَ هَذَا الْأَثَرَ بِجُمْلَةِ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللهِ فِي هَذَا الْبَابِ، فعَنْ عُبَيْدِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ
عَنْ مَسْرُوقٍ, عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: “مَنْ شَفَعَ لِرَجُلٍ لِيَدْفَعَ عَنْهُ مَظْلمَةً أَوْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَقًّا، فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً فَقَبِلَهَا، فَذَلِكَ السُّحْتُ. فَقُلْنَا: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ, إِنَّا كُنَّا نَعُدُّ السُّحْتَ الرِّشْوَةَ فِي الْحُكْمِ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ(٤٤)}” تفسيرُ ابن أبي حاتم، وَاضِحَةٌ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا قَالَ: “قَالَ: مَنْ شَفَعَ لِرَجُلٍ لِيَدْفَعَ عَنْهُ مَظْلمَةً أَوْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَقًّا، فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً”، فَعَدَّ الْهَدِيَّةَ هَاهُنَا هِيَ الرِّشْوَة وَهِيَ السُّحْت وَالْمَعْصِيَةُ، أَمَّا غَيْرُهَا الَّتِي فِي الْحُكْمِ لِتَغْيِيرِهِ أَوْ لِتَعْطِيلِهِ وَتَبْدِيلِهِ فَإِنَّمَا هِيَ كُفْرٌ بِاللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَهَذَا الَّذِي فَهِمَهُ مَسْرُوقٌ مِنْ شَيْخِهِ عَبْد الله حَيْثُ قَالَ مَسْرُوقٌ: “الْقَاضِي إِذَا أَكَلَ الْهَدِيَّةَ فَقَدْ أَكَلَ السُّحْتَ, وَإِذَا قَبِلَ الرِّشْوَةَ بَلَغَتْ بِهِ الْكُفْرَ” تَفْسِيرُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا مَسْرُوقٌ كَمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَالتَّفْرِيقُ وَاضِحٌ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمَعْصِيَةِ وَالْكُفْرِ وَهُوَ فَهْمُ الصَّحَابَةِ كَمَا هُوَ مَنْقُولٌ عَنْ عُمَرَ كَذَلِكَ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الرِّشْوَةِ فِي الْحُكْمِ وَبَيْنَ الْهَدِيَّةِ، كَذَلِكَ هُوَ تَفْرِيقُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ كَمَا سَيَأْتِي مَعَنَا فِي سَرْدِ هَذِهِ الْآثَارِ.
• نَقُولُ: أَنَّ الْكُفْرَ لَا يَنْصَرِفُ إِلَى الْأَصْغَرِ إِلَّا بِقَرِينَةٍ وَاضِحَةٍ بَيِّنَةٍ كَمَا هُوَ مُتَقَرّرٌ، أَمَّا فِي الْأَثَرِ الَّذِي مَعَنَا فِيهِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْأَكْبَرُ فَكَيْفَ نَصْرِفُهُ إِلَى الْأَصْغَرِ، وَهَذَا وَاضِحٌ فِي مُرَادِ عَبْد الِلهِ أَنَّ الْكُفْرَ هُوَ الْكُفْرُ الْأَكْبَرُ، وَمَعَ ذَلِكَ تَجِدُ مَنْ يُرِيدُ إِثْبَاتَ خِلَاف هَذَا وَيَتَعَنَّتُ وَيَأْتِي بِآثَارٍ لَيْسَ لَهَا وَجْه رَبْطٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ هَذَا الْأَثَرِ، بَلْ لَا يَقِفُ عِنْدَ هَذَا !! بَلْ يَرْمِي هَذَا الْقَوْلَ وَهُوَ التَّكْفِيرُ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَرْمِيهِ بِالْخَارِجِيَّةِ !! وَهَذَا لَا شَكَّ أَنَّهُ طَعْنٌ صَرِيحٌ فِي أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ كَمَا سَيَأْتِي مَعَنَا فِي ذِكْرِ الْآثَارِ فِي ذَلِكَ .
•نَقُولُ أَنّهُ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَكَذَلِكَ عَلِيّ وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: “قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَرَأَيْتَ الرِّشْوَةَ فِي الْحُكْمِ أَمِنَ السُّحْتِ هِيَ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ كُفْر، إِنَّمَا السُّحْتُ أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ عِنْدَ السُّلْطَانِ جَاهٌ وَمَنْزِلَةٌ، وَيَكُون للآخَر إِلَى السُّلْطَانِ حَاجَةٌ فَلَا يَقْضِي حَاجَتَهُ حَتَّى يُهْدِيَ إِلَيْهِ هَدِيَّةَ” الدُّرُّ الْمَنْثُورُ فِي التَّفْسِيرِ بِالْمَأْثُورِ، وَاضِحَةٌ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمَعْصِيَةِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ قَالَ: ” أَرَأَيْتَ الرِّشْوَةَ فِي الْحُكْمِ أَمِنَ السُّحْتِ هي؟ قَالَ: لَا، وَلَكِن كُفْرٌ، إِنَّمَا السُّحْتُ..” وَذَكَرَ صُورَتَهُ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عنه أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ السُّحْتِ فَقَالَ: “الرِّشَا، فَقِيلَ لَهُ فِي الْحُكْمِ؟ قَالَ: ذَاكَ الْكُفْرُ» روحُ المَعاني، وَكذلك أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ فِي السُّنَنِ عَنْ عَبْد اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ هَاهُنَا، وَكَذَلِكَ وَرَدَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ كَالْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي تَفْسِيرِهِ لِقَوْلِهِ: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} “هُوَ الرِّشْوَةُ، وَقَالَ: إِذَا قَبِلَ الْقَاضِي الرِّشْوَةَ بَلَغَتْ بِهِ الْكُفْرَ” الْمُغْنِي .
كَذَلِكَ مَا نُقِلَ فِي اللُّبَابِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَكَذَلِكَ الْحَسَن وَالنَّخَعِيّ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاث عَامَّةٌ فِي الْيَهُودِ وَفِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَكُلُّ مَن ارْتَشَى وَبَدَّلَ الْحُكْم فَحَكَمَ بِغَيْرِ حُكْمِ اللهِ فَقَدْ كَفَرَ وَظلَمَ وَفَسَق. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ السُّدِّيُّ. لِأَنَّهُ ظَاهِرُ الْخِطَابِ، ثُمَّ قَالَ: وَقِيلَ هَذَا فِيمَنْ عَلِمَ نَصَّ حُكْمِ اللهِ ثُمَّ رَدَّهُ عيَانًا عَمْدًا وَحَكَمَ بِغَيْرِهِ، أَمَّا مَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ النَّصُّ أَوْ أَخْطَأَ فِي التَّأْوِيلِ فَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْوَعِيدِ .
محاسنُ التّأويلِ
رُوِيَ عَن الشَّعْبِيِّ قَالَ: “إِذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي شَيْءٍ فَخُذُوا بِمَا قَالَ عُمَرُ”، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: “إِنِّي لَأَحْسَبُ عُمَرَ ذَهَبَ بِتِسْعَةِ أَعْشَارِ الْعِلْمِ”، وَقَالَ أَيْضًا: “لَوْ أَنَّ عِلْمَ عُمَرَ وُضِعَ فِي كفّةِ الْمِيزَانِ وَوُضِعَ عِلْم أَهْلِ الْأَرْضِ فِي كفَةٍ، لرَجَحَ عِلْم عُمَرَ” كِتَابُ إِعْلَام الْمُوَقِّعِينَ، وَعَبْد اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَكَذَلِكَ عُمَرُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُهُمَا وَاحِدٌ كَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ وَتَقْرِيرُهُ.
مِن الْآثَارِ كَذَلِكَ مَا رَوَاهُ وَكِيعٌ فِي كِتَابِ أَخْبَارِ الْقُضَاةِ قَالَ: “حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ الْجُرْجَانِيّ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سُئِلَ عبدُ الله بْنُ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ: {وَمَنْ لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} الْمَائِدَة، قَالَ: كَفَى بِهِ كُفْرُهُ”
▪نَقِفُ عِنْدَ هَذَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَشْهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ.
▪▪يتبع الجزء الرّابع إن شاء الله ••• ▪▪