السلاسل العلميةسلسلة أدلّة الأحكام

حجيّة السّنّة والرّدّ على النّكرانيّين : الدرس الأول : الجزءُ الثالث

🖋الجزء الثّالث: الأدلّة على حجيّة السّنّة ٢.


بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله ربّ العالمين والصّلاة والسّلام على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه والتّابعين أما بعد…


لا يزال حديثنا في ذكر الأدلّة على حجيّة السّنة، منها كذلك قوله تبارك وتعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ } المائدة، قال ابن عباس: “سبيلا وسنّة” تفسير الطّبري، ومنها كذلك قوله تبارك وتعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التّوبة٣٢]، يقول السّدّي: “يقول: يريدون أن يطفئوا الإسلام بكلامهم” تفسير الطّبري، ففسّر نورَ الله بالإسلام، كذلك قوله تبارك وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا” المائدة، فمجموع هذه الآيات يردّ على من يقول أن الله قد تكفّل بحفظ القرآن دون السّنة، ويستدلّ بقوله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نـزّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الحجر، ثم يقول: لو كانت السّنة حجّة ودليلا مثل القرآن لتكفّل الله بحفظها أيضا !!! فنردّ على هذه الشّبهة الواهية أنّ القرآن يُفهم بمجموع الآيات لا بآحادها، ونقول أنّ الله عز وجل قد تكفّل بحفظ مصدر الشّريعة كلّها، الكتاب والسّنة كما يدلّ عليه قوله: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ} فنور الله هو الإسلام وهو شرع الله ودينه، وهو الإسلام الذي ارتضاه الله لعباده والذي أوحاه إلى رسوله سواء كان قرآنا أو حكمةً، يقول الطّبري: “{وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ}: يعلو دينه وتظهر كلمته ويتمّ الحقَّ الذي بعث به رسوله محمّدا صلى الله عليه وسلم” تفسير الطّبري. أمّا قوله:{إِنَّا نَحْنُ نـزّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون} فالذكر في الآية اسم واقع على الألفاظ والمعاني، أي ما أنزل الله تبارك وتعالى على نبيّه من قرآن أو ما ورد من بيانه من سنّة النّبي صلى الله عليه وسلم فالحفظ هو حفظ المباني وكذلك حفظ المعاني، والسّنة كما سيأتي بيانه هي مبيّنة للقرآن مفسّرة وشارحة له والله جل جلاله أمرنا أن نتأَسّى بالنّبي صلى الله عليه وسلم بقوله:{لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا (21)} هذا يدل على أنّ السّنة محفوظة ليتمكّن المسلمون من التأسّي بالنّبي صلى الله عليه وسلم فالله جلّ في علاه لا يأمرنا بالتّأسي برسول الله ثمّ تُترك هذه السّنة يتلاعب بها الوضّاعون والمغرضون، ويجوز عليها التّبديل والتّحريف ويجوز أن تختلط بالكذب الموضوع اختلاطا لا تتميّز به أبدا، فهذا لا شكّ أنّه فاسد باطل.
ثمّ نقول أنّ الذِكر ورد في القرآن من عشرين وجها، ومنها الذكر بمعنى: رسالة النّبي صلى الله عليه وسلم، كما في قوله: {فَاتَّقُوا اللهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا ۚ قَدْ أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (١٠) رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۚ } الطّلاق، كذلك نقول أنّ لأهل التّفاسير في ضمير الغيبة في قوله: {إِنَّا نَحْنُ نـزّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون} فالضّمير ها هنا لهم فيه قولان:
-الأوّل: أنّ الضّمير يرجع ويعود إلى محمّد صلّى الله عليه وسلم فحينئذ لا يصحّ التّمسّك بالآية، يقول الطّبريّ: “الهاء في قوله ( وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم بمعنى: وإنا لمحمّد حافظون ممن أراده بسوء من أعدائه.” تفسير الطّبري.
-الثاني من أوجه التفسير أنها ترجع إلى الذِّكر بمعنى القرآن كما روي عن قتادة: “{وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} قال: حفظه الله من أن يزيد فيه الشيطان باطلا أو ينقص منه حقا” تفسير الطّبري، فإن فسّرناها بالشّريعة كلها كما سبق معنا حفظ المعاني والمباني فلا مستمسك لهم حين ذاك وإن فسّرناها بالقرآن فنقول أنّنا لا نسلّم أنّ الحصر في القرآن هو حصر حقيقيّ، مامعنى الحصر الحقيقيّ؟ بمعنى أنّ الله عزّ وجلّ قد حفظ القرآن ولم يحفظ معه غيره، فالحصر الحقيقيّ في لغة العرب إنّما يكون بصيغ ذَكَرَها أهل البلاغةِ منها “إلا” مسبوقة ب “لا” كقوله “لا إله إلا الله” أو ب “إنّما” فهذا هو الحصر الذي يسمّيه أهل البلاغة حصر حقيقي، فليس ثمّ دلالة في الآية على مفهوم الحصر، نقول أنّ هؤلاء إنّما يستدلّون بالمفهوم لا بالمنطوق، والمفهوم بالآية هو على ضربين: مفهوم الحصر ومفهوم اللقب، أمّا مفهوم الحصر فنقول بأنّه لا حصر في القرآن حصرا حقيقيا، أمّا تقديم الجار والمجرور ليس للحصر وإنّما هو لمناسبة رؤوس الآيات، فليس في الآية حصر حقيقي أي بالنّسبة لكلّ ما عدا القرآن فإنّ الله تبارك وتعالى قد حفظ أشياء كثيرة ما عدا القرآن مثل حفظ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم من الكيد والقتل حتى بلّغ رسالة ربّه كما في قوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)} المائدة، وكذلك حِفظ الله تبارك وتعالى للعرش، وكذلك حفظه السّماوات والأرض من الزّوال حتى تقوم الساعة كقوله: {إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا ۚ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ ۚ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)} فاطر، فلا وجه للدّلالة على الحصر في الآية، أمّا الحصر الإضافي بالنّسبة إلى شيء مخصوص، فهذا يحتاج إلى دليل وقرينة، ولا دليل ولا قرينة في هذه الآية، ما معنى الحصر الإضافي يعني باعتبار السّنّة، باعتبار أنّ الله حفظ القرآن ولم يحفظ السّنّة فهو حصر إضافي بالنّسبة إلى شيء مخصوص، قالوا أنّ هذا الشّيء المخصوص هو السّنّة، وهذا لا شكّ أنّه فاسد باطل، لأنّه لو كان في الآية حصر إضافي بالنّسبة لشيء مخصوص لَمَا جاز أن يكون هذا الشيء هو السّنّة، لأنّ حِفظ القرآنِ متوقّف على حفظ السّنّة ومستلزم له، لأنّ السّنّة هي حصنه الحصين وشارحه المبين، السّنّة هي التي تفسِّر مجمل القرآن وتشرح مُبهمه، وتفسِّر مشكل القرآن، فبيان السّنّة يدفع عن القرآن تحريف المحرّفين وعبَث العابثين، وكذلك يمنع تأويل أهل العقول على حسب أهوائهم واغراضهم فحفظ السّنّة من أسباب حفظ كتاب الله تبارك وتعالى وصيانة السّنّة سبب لصيانة كتاب الله تبارك وتعالى، ولله الحمد والمّنّة فلم يذهب منها شيء على هذه الأمّة ممّا يجب اعتقاده أو ممّا يجب العمل به، فنقول أنّه ليس ثمّ حصر إضافي بالإضافة إلى شيء مخصوص ثم يكون هذا الشيء هو السّنّة!! فهذا لا شكّ أنّه فاسد باطل فلا حصر في الآية لا على جهة الحصر الحقيقي ولا جهة الحصر الإضافي، ثمّ نقول أنّ التّنصيص في الآية على حفظ الكتاب أو على حفظ القرآن لا يستلزم عدم حفظ السّنّة، فذكر المولى أنّه حفظ القرآن وهذا لا شكّ أنّه أمر مُسَلّم له، أمّا المفهوم فلا مفهوم في الآية سواء كان مفهوم حصر أو كان مفهوم لقب، لماذا؟ لأنّ مفهوم اللّقب لا شكّ أنّه ضعيف عند جماهير أهل الأصول.
فمفهوم اللّقب مفهوم ضعيف، مامعنى مفهوم اللقب؟ تقول مثلا نجح زيد، ليس معناه أنّ غيره لم ينجح، قد يكون نجح زيد ونجح عمرو وغيره، وكذلك في قوله: محمد رسول الله، هذا لا يعني أنّ غيره ليس برسول الله تبارك وتعالى، فمفهوم اللّقب في قوله: محمد رسول الله يؤدي إلى الكفر والتّكذيب، كذلك ها هنا إذا قلتَ أنّ الله عز وجل قد حفظ القرآن ولم يحفظ غيره بمعنى أنّ السّنّة غير محفوظة وهي معرّضة للتّحريف والتّغيير والتّبديل، إذا فالسّنّة ليست بحجة ثم تُعَطّل العمل بسنّة النّبيّ صلى الله عليه وسلم فهذا المفهوم الذي أدّاك إلى هذا المعنى أنه كفر بالله تبارك وتعالى، يقول ابن حزم: “فنقول لمن جوز أن يكون ما أمر الله تعالى به نبيه ﷺ من بيان شريعة الإسلام لنا غير محفوظ ، وإنه يجوز فيه التبديل، وأن يختلط بالكذب الموضوع اختلاطا لا يتميز أبدا: أخبرونا عن إكمال الله دينا ورضاه الإسلام لنا دينا، ومنعه تعالى من قبول كل دين حاشا الإسلام، أكلّ ذلك باق علينا ولنا إلى يوم القيامة ؟ أم إنّما كان ذلك للصحابة رضي الله عنهم فقط ؟ أم لا للصحابة ولا لنا ؟ ولا بد من أحد هذه الوجوه .
فإن قالوا : لا للصحابة ولا لنا ، كان قائل هذا القول كافرا لتكذيبه الله تعالى جهارا وهذا لا يقوله مسلم.
وإن قالوا: بل كان كل ذلك باق لنا وعلينا إلى يوم القيامة صاروا إلى قولنا ضرورة، وصحّ أن شرائع الإسلام كلها كاملة، والنّعمة بذلك علينا تامة، وأن دين الإسلام الذي ألزمنا الله تعالى اتباعه لأنه هو الدين عنده عز وجل متميز عن غيره الذي لا يقبله الله تعالى من أحد.” الإحكام
• ممّا يدلّ على أنّ الله عز وجل قد حفظ الشّريعة كلها وذلك يكون بحفظ السّنّة التي حوت على صفات العبادات وكيفياتها وتفصيل الأوامر والنّواهي وكذلك الحدود والشّرائع والأوضاع ما أخرجه البيهقي بسنده عن شبيب ابن أبي فضالة المكي: “أن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه ذكر الشفاعة فقال رجل من القوم: يا أبا نجيد إنكم تحدثونا بأحاديث لم نجد لها أصلاً في القرآن، فغضب عمران وقال للرجل: قرأت القرآن؟ قال: نعم، قال: فهل وجدت فيه صلاة العشاء أربعا، ووجدت المغرب ثلاثا، والغداة ركعتين، والظهر أربعاً، والعصر أربعا؟ قال: لا، قال: فعن من أخذتم ذلك؟ ألستم عنا أخذتموه وأخذناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أوجدتم فيه في كل أربعين شاة شاة، وفي كل كذا بعير كذا؟ وفي كل كذا درهما كذا؟ قال: لا، قال: فعمن أخذتم ذلك؟ ألستم عنا أخذتموه وأخذناه عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ وقال في القرآن: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29] أوجدتم فيه الطواف سبعاً؟ واركعوا ركعتين خلف المقام؟ أوجدتم في القرآن: (لا جلب ولا شغار في الإسلام؟) أما سمعتم الله قال في كتابه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]؟ قال عمران: فقد أخذنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشياء ليس لكم بها علم.” دلائل النّبوة. فقوله تبارك وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نـزّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون} الحجر، فيه دلالة على أنّ الله تعالى قد تكفّل بحفظ الشّريعة كلّها الكتاب والسّنّة، فحفظ الله سنّة النّبيّ صلى الله عليه وسلم كما حفظ كتابه كما سيأتي بيانه بإذن الله تبارك وتعالى، وجعل هذه السّنّة حصنه ودرعه وحارسه وشارحه، فكانت السّنّة الشجى في حلوق الملحدين والمستشرقين والقذى في عيون المتزندقين، وهي السّيف القاطع لِشُبَهِ المنافقين وتشكيكات الكائدين، كما قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: “إِنَّهُ سَيَأْتِي أُنَاسٌ يَأْخُذُونَكُمْ بِشُبُهَاتِ الْقُرْآنِ، فَخُذُوهُمْ بِالسُّنَنِ، فَإِنَّ أَصْحَابَ السُّنَنِ أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللهِ.”
لذلك هؤلاء الزّنادقة لم يألوا جُهْدًا في الطّعن في حجيّة السّنّة، والتّهوين من أمرها، والتّنفير من التّمسك بها، لينالوا من تأويل القرآن وتحريفه ما يريدون.

▪▪▪نقف هنا سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.▪▪▪

▪▪▪انتهى الدّرس الأوّل▪▪▪

سراج الطريق

نحن نزاعٌ من القبائل حققوا البراءة من هذه الجاهلية النكراء … نحن الغرباء الذين تقلدوا لواء الإصلاح … بقايا الحنفاء من يُصلحون إذا فسد الناس … نحن القلة المستضعفة … القلة التي تفر بدينها … القلة السالكة المستوحشة … الحاملون لجراح أمتهم … سراج الظلم في تيه الجاهلية … الأمل في عود الضياء … عِصابة المسلمين وعصارة الموحدين في زمن أقفر ما بين لبنتيها من المسلمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى