السلاسل العلميةسلسة الهداية في بيان حد الإسلام وحقيقة الإيمان بين التأصيل والتنزيل

الحاكميّةُ: الدّرسُ الخامسُ: الجزء الثَّانِي

الجُزءُ الثَّانِي: التَّحَاكُم إِلَى الطَّاغُوت ١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الحَمْدُ لِلهِ رَبِّ العَالَمِينَ وَالصَّلَاة وَالسَّلَام عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلِى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ أمّا بعد…

بَقِيَت مَعَنَا مَسْأَلَةٌ وَهِيَ: مَسْأَلَةُ التَّحَاكُمِ إِلَى الطَّوَاغِيتِ الحَاكِمِينَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ.
• وَنَقُولُ أَنَّ التَّحَاكُمَ: هُوَ إِسْنَادُ القَضَاءِ إِلَى حَاكِمٍ لِفَصْلِ النِّزَاعِ القَائِمِ بَيْنَ الإثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَر، وَالتَّحَاكُمُ يَقَعُ بِطَلَبِ الفَصْل مِنْ جِهَةِ المُدَّعِي، وكَذلك يَقَع التَّحَاكُمُ بالِاسْتِجَابَة مِنْ جِهَةِ
المُدَّعَى عَلَيْهِ، فَمَنْ رَدَّ النِّزَاعَ وَالخُصُومَةَ إِلَى الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَقَدْ أَفْرَدَ الله فِي عِبَادَةِ التَّحَاكُمِ، وَمَنْ رَدَّ النِّزَاعَ إِلَى غَيْرِ شَرْع الله مِنْ أَحْكَامِ الجَاهِلِيَّةِ وَالطَّوَاغِيتِ، فَقَدْ أَشْرَكَ بِالله فِي عِبَادَةِ التَّحَاكُمِ، قَالَ ابْنُ مَنْظُورٍ: “وَحَاكَمهُ إِلَى الحكمِ: دَعَاهُ” لِسَانُ العَرَب، وَقَالَ اللَّيْثُ: “وَيُقَالُ: حَكّمْنَا فُلَانًا بَينَنَا أَيْ: أَجَزْنَا حُكْمَهُ بَينَنَا، وَحَاكَمْنَا فُلَانًا إِلَى اللهِ أَيْ: دَعَوْنَاهُ إِلَى حُكْمِ اللهِ” تَهْذِيبُ اللُّغَةِ.
•وَالتَّحَاكُمُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ إِلَى سُلْطَانِ البلَدِ الذِي يُسْتَعْدى إِلَيْهِ، إِذْ وِلَايَةُ القَضَاءِ وَالقَاضِي يسْتَعْدى إِلَيْهِ، وَذَلِكَ فِي حَقِّ كَافَّةِ النَّاسِ، أَوْ يَكُونُ بِالتَّحْكِيمِ.
• وَالتَّحْكِيمُ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَصييرِ غَيْرهِ حَكَمًا، فَيَكُون الحكمُ فِي حَقِّ مَا بَيْنَ الخَصْمَيْنِ كَالقَاضِي فِي حَقِّ كَافَّةِ النَّاسِ.
نَقُولُ: أَنَّ الإِجَابَةَ إِلَى التَّحَاكُمِ إِلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِبَادَةٌ، وَوَاجِبٌ عَلَى المُكَلَّفِينَ، وَالإِعْرَاضُ عَنْ ذَلِكَ هُوَ كُفْرٌ بِاللهِ تَبَارَكَ وتَعالَى، وَهو مِن صِفَة الْمُنَافِقِينَ وَأَعْدَاءِ اللهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَالَ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ ۚ وَمَا أُولَٰئِكَ بِالمُؤْمِنِينَ (٤٧)} النّور، وقَال: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ(٥٠)} النّور، وقالَ تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ(٢٣)} آل عمران، وكَقولِه -تَبارك وتعَالى: {وَالذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ(٣)} الأحقاف، فَالله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي آيَاتِ النُّورِ نَفَى الإِيمَانَ عَمَّنْ تَرَكَ الِاحْتِكَامَ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَعْرَضَ عَنْهُ، قَالَ أَبُو جَعْفَر: ﴿وَمَاأُولَئِكَ بِالمُؤْمِنِينَ﴾ يَقُولُ: “وَلَيْسَ قَائِلُوا هَذِهِ المَقَالَة يَعْنِي (قَوْله: ﴿آمنَّا بِالله وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا﴾) بِالمُؤْمِنِينَ، لِتَرْكِهِم الِاحْتِكَامَ إِلَى رَسُولِ اللهِ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ إِذَا دُعوا إِلَيْهِ” تَفْسِير الطَّبَرِيّ ، وَقَالَ الجَصَّاصُ: “وَفِي هَذِهِ الآيَةِ: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ رَدَّ شَيْئًا مِنْ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى أَوْ أَوَامِرِ رَسُولِهِ فَهُوَ خَارِجٌ مِنَ الْإِسْلَامِ، سَوَاء رَدَّهُ مِنْ جِهَةِ الشَّكِّ فِيهِ أَوْ مِنْ جِهَةِ تَرْكِ القبُولِ وَالِامْتِنَاعِ مِن التَّسْلِيمِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ صِحَّةَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الصَّحَابَةُ فِي حُكْمِهِمْ بِارْتِدَادِ مَن امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ وَقَتْلِهِمْ وَسَبْي ذَرَارِيهِمْ، لِأَنَّ الله تَعَالَى حَكَمَ بِأَنَّ مَنْ لَمْ يُسَلِّمْ لِلنَّبِيِّ صَلَى اللّٰه عَلَيهِ وسَلَم قَضَاءَهُ وَحُكْمَهُ فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَان” أَحْكَامُ القُرْآنِ لِلجَصَّاصِ، فِي الآيَاتِ التِي سَبَقَتْ مَعَنَا وَفِي آيَةِ النُّورِ فِيهِ ذِكْر صِفَةِ المُنَافِقِينَ التِي هِيَ الإِعْرَاضُ عَن التَّحَاكُمِ إلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، كَمَا وَرَدَ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِالسَّلَفِ، قَالَ أَبُو العَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ} قَال:

“هَؤُلَاءِالمُنَافِقِينَ” رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَكَذلِكَ قولُ ابنِ عَبَّاسٍ في قوله: “{وَإِذَا دُعُوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} قَالُوا: بَلْ نُحَاكِمُكُمْ إِلَى كَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ” رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: {مُعْرِضُونَ}: “عَنْ كِتَابِ اللّهِ” رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ .

• نقُولُ: أَنَّه إِذَا كَانَت الإِجَابَةُ إِلَى التَّحَاكُمِ إِلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَى اللّٰه عَليهِ وسَلّم عِبَادَةٌ، فَمَنْ صَرَفَ هَذِهِ العِبَادَةَ إِلَى غَيْرِ شَرْعِ اللهِ تَبارَكَ وتعَالَى كَفَر، فَيَكُونُ بِذَلِكَ مَنْ أَجَابَ الدَّعْوَةَ إِلَى التَّحَاكُمِ إِلَى غَيْرِ كِتَابِ اللهِ وَ سنّة رَسُوله إِذَا دُعِيَ إِلَيْهَا كفَرَ بِاللهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ صَرَف العِبَادَةَ لِغَيْرِ اللهِ، وَالإِعْرَاضُ عَنْ ذلك هُوَ: الإِيمَانُ، وَضِدُّهُ الكُفْرُ بِاللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى (أَي: الإِجَابَةُ هِيَ الكُفْرُ بِاللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى).
التَّحَاكُمُ يَدْخُلُ فِي حَدِّ العِبَادَةِ التِي هِيَ كَمَا عَرَّفَهَا الطَّبَرِيُّ قَالَ: “الخُضُوعُ لِلهِ بِالطَّاعَةِ وَالتَّذَلُّلِ لَهُ بِالِاسْتِكَانَةِ” تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ، فَالتَّحَاكُمُ لِلهِ -عَزَّ وَجَلَّ- لِكِتَابِهِ وَلِسُنَّةِ رَسُولِهِ هو خُضُوعٌ لِلهِ بِالطَّاعَةِ أَيْ: طَاعَة اللهِ بِرَدِّ النِّزَاعِ لِكِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَحْدَهُ دُونَ مَا سِوَاهُ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ (٥٩)} النِّساء، وَعَنْ عَامِرٍ قَالَ: كَانَ بَيْنَ عُمَرَ وَأُبَيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا خُصُومَةٌ فِي حَائِطٍ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: “بَيْنِي وَبَيْنَكَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، فَانْطَلَقَا فَطَرَقَ عُمَرُ الْبَابَ فَعَرَفَ زَيْدٌ صَوْتَهُ فَفَتَحَ الْبَابَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ أَلَا بَعَثْتَ إِلَيَّ حَتَّى آتِيَكَ؟ فَقَالَ: فِي بَيْتِهِ يُؤْتَى الحَكَمُ” رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الكُبْرَى، فَتَرَى أَنَّ عُمَرَ وَأُبَيًّا رَفَعَا الخُصُومَةَ إِلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَتَحَاكَمَا إِلَيْهِ.
• التَّحَاكُمُ إِلَى الطَّاغُوتِ الذِي يَحْكُمُ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ والذِي بَدَّلَ شَرَائِعَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَمَا هُوَ وَاقِعٌ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وهَذَا لَا شَكَّ أَنَّهُ كُفْرٌ يَزُولُ بِهِ أَصْلُ الإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ، لِأَنَّ الحُكْمَ لِلهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَالأَمْر لِلهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي مُقَدِّمَةِ هَذِهِ السِّلْسِلَةِ وفِي مُقَدِّمَةِ دَرْسِ الْحَاكِمِيَّةِ، فَمَنْ أَفْرَدَ اللهَ بِذَلِكَ وَخَضَعَ لِأَحْكَامِهِ وَتَحَاكَمَ لِكِتَابِهِ فَهُوَ المُسْلِمُ الْمُوَحِّدُ، وَمَنْ تَحَاكَمَ إِلَى غَيْرِ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَدْ أَشْرَكَ بِالله فِي عِبَادَتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ، وَالبَعْضُ يَضَعُ عَقَبَاتٍ أَوْ شُرُوطا مَا أَنْزَلَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ، وَيَشْتَرطُ -أَنَّ المُتَحَاكِمَ إِذَا تَحَاكَمَ اعْتِقَادًا مِنْهُ أَنَّ شَرِيعَةَ الطَّاغُوتِ أَفْضَل مِنْ شَرِيعَةِ اللهِ كَفَرَ وَإِلَّا فَلَا!!، بَعْضُهُمْ يَقُولُ: لَو اعْتَقَدَ أَنَّ أَمْرَ الطَّاغُوتِ وَاجِب الِاتِّبَاعِ، أَوْ بَعْضهُمْ يَقُولُ: إِنَّهُ لَوْ رَضِيَ بِالتَّحَاكُمِ إِلَى الطَّاغُوتِ كفَرَ، وَكُلُّهَا مَنَاطَات قَلْبِيَّةٌ، يُعَلِّقُونَ بِهَا الكُفْرَ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ العَظِيمَةِ كَمَا هُوَ تَأْصِيلُهُمْ فِي مَسْأَلَةِ الإِيمَانِ، فِي أَنَّ الإِيمَانَ لَايَقَعُ بِالْعَمَلِ، فَتَرَاهُمْ يَجْعَلُونَ أَوْ يَرْبِطُونَ كُفْرَ الْعَمَلِ عُمُومًا بِمَنَاطات قَلْبِيَّة كَالرِّضَى، وَالِاعْتِقَاد أنّ شَرِيعَةَ الطَّاغُوتِ أَفْضَلُ وَنَحْو ذَلِكَ… مِمَّا يَجْعَلُونَهُ أَوْ يُعَلِّقُونَ بِهِ الكُفْرَ فِي هَذَا الْبَابِ.
وَنَحْنُ نَعْتَقِدُ وَنَقُولُ عَلَى مَاقَرَّرَهُ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَالسَّلَف الصَّالِحِينَ فِي هَذَا: أَنَّ المَرْءَ يَصِيرُ مُتَحَاكِمًا بِفِعْلِ التَّحَاكُمِ، لأنّ التّحاكمَ عملٌ، وهو عَمَلٌ مُكَفِّرٌ بِذَاتِهِ، وَالتَّحَاكمُ إِمَّا أَنْ يَقَعَ بِالْقَوْلِ أَوْ يَقَع بِالْفِعْلِ عَلَى جِهَةِ الِاخْتِيَارِ، فخَرَجَ بِذَلِكَ مَنْ كَانَ مُكْرَهًا، يعني التَّحَاكُم: هُوَ قَوْلٌ بطَلَبِ التَّحَاكُمِ (رَفْع الدَّعْوَةِ) وَيَكُونُ كَذَلِكَ بِالِاسْتِجَابَةِ إِلَى التَّحَاكُمِ، فَالتَّحَاكُمُ فِيهِ مُدَّع وَمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَالْمُدَّعِي يَطْلُبُ فَصْلَ النِّزَاعِ وَيَسْتَجِيبُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِفَصْلِ هَذَا النِّزَاعِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِالمُثُولِ بَيْنَ يَدَيِ الْقَضَاءِ، وَبَيْنَ يَدَي الطَّاغُوتِ لِفَصْلِ النِّزَاعِ بَيْنَهُمَا (أَي: الِامْتِثَال لِأَمْرِ الطَّاغُوتِ بِفَصْلِ النِّزَاعِ بَيْنَ المُتَنَازِعَيْن) .
• نَقُولُ: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ قَصْدُ الكُفْرِ، أَوِ اعْتِقَادُ أَنَّ شَرِيعَةَ الطَّاغُوتِ أَفْضَلُ، أَو الرِّضَا بِحُكْمِهِ وَنَحْو ذَلِكَ.. فَهَذِهِ كُلُّهَا مَنَاطَاتٌ خَارِجَةٌ عَنْ مَسْأَلَةِ التَّحَاكُمِ، لِأَنَّهُ لَوْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ لَكَفَرَ وَلَوْ رَضِيَ بِذَلِكَ لكَفرَ، وَلَو اعْتَقَدَ أَنَّ طَاعَةَ الطَّاغُوتِ وَاجِبَةٌ لَكفَر، أَمَّا فِعْلُ التَّحَاكُمِ فَهُوَ مُكَفِّرٌ بِذَاتِهِ.
فَكُلُّ مَنْ قَالَ وَفَعَلَ مَا هُوَ كُفْرٌ أَكْبَرُ كَفَرَ بِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِد الْكُفْرَ، أَوْ لَمْ يَقْصِدْ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا، فَقَصدُ الْكُفْرِ لَا اعْتِبَارَ لَهُ فِي كُفْرِ الْعَمَلِ، وَهُنَا فِي مَسْأَلَةِ التَّحَاكُمِ نَقُولُ: بِأَنَّ هَذَا الْمكَلَّفَ قَدْ صَرَفَ الْعِبَادَةَ التِي هِيَ التَّحَاكُمُ وَرَدَّ النِّزَاعِ إِلَى غَيْرِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فَكَفَرَ بِذَلِكَ، وَهَذَا الْعَمَلُ مُكَفِّرٌ بِذَاتِهِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الرِّضَا بِالكُفْرِ أَو الِاسْتِحْلَال، كَمَا يَرْبِطُهُ الْجَهْمِيَّةُ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَهَذَا لَا شَكَّ أَنَّهُ مَنْطُوقُ الْقُرْآنِ، وَهُوَ أَصْلٌ مُتَقَرّرٌ فِي بَابِ الإيْمَانِ عِنْدَ السَّلَفِ، لِأَنَّ صَرْفَ الْعِبَادَةِ الْعَمَلِيَّة إِلَى الطَّاغُوتِ كُفْرٌ كَالسُّجُودِ لَهُ، وَكَذَلِكَ دُعَاؤُهُ، والذَّبْح لَهُ، وَطَوَافُ هَذِهِ القُبُورِ وَالأَوْثَانِ وَنَحْو ذَلِكَ.. فَهَذِهِ كُلُّهَا مُكَفِّرَاتٌ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ: أَنَّ هَذِهِ المُكَفِّرَات إِنَّمَا هي مَوْقُوفَةٌ عَلَى اعْتِقَادِ النَّفْعِ وَالضّرِّ كَمَا يَقُولُهُ الجَهْمِيَّةُ .
•كَذَلِكَ نقُولُ بِأَنَّ التَّحَاكُمَ هُوَ عَمَلٌ، وَيَقَعُ التَّحَاكُمُ بِطَلَبِ الحُكْمِ أَو الِاسْتِجَابَةِ للْحُكْمُ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الرِّضَا وَالِاسْتِحْلَالُ، كَمَا لَا يُشْتَرَطُ فِي السُّجُود وَالطَّوَافِ الرِّضَا وَالِاسْتِحْلَال.
• نَقُولُ بِأَنَّ اللّٰه -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَفَّرَ بِإِرَادَةِ التَّحَاكُمِ إِلَى الطَّاغُوتِ دُونَ فِعْلِهَا، يَعْنِي مَنْ أَرَادَ التَّحَاكُمَ كَفَرَ فَكَيْفَ بِمَنْ تَحَاكَمَ وَفَعَلَ فِعْل التَّحَاكُمَ، قَالَ تَعَالَى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ (٦٠)} النّساء، قَالَ مُجَاهِدٌ: “تَنَازَعَ رَجُلٌ مِنَ المُنَافِقِينَ (انْظُرْ مَعْنَى الْإِرَادَةِ هُنَا، مامعنى “يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ”؟ الْإِرَادَةُ لَيْسَ مَحَلُّهَا الْقَلْبَ كَمَا يَعْتَقِدُ بَعْضُهُمْ، لِذَلِكَ نَرْجِعُ فِي فَهْمِ الْآيَاتِ إِلَى فَهْمِ السَّلَف أَوْ فِيمَا نَزَلَتْ فِيهِ، لِأَنَّ صورَةَ النُّزُولِ تُفَسّرُ الْآيَة)، قال مجاهد: “تنازع رجل من المنافقين وَرَجُلٌ مِنَ اليَهُودِ فَقَالَ اليَهُوديّ: اذْهَبْ بِنَا إِلَى مُحَمَّدٍ، وَقَالَ المُنَافِقُ: اذْهَبْ بِنَا إِلَى كَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ (تَكَلَّم وَنَطَق وَقَالَ: اذْهَبْ بِنَا إِلَى كَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ يَعْنِي: طَلَبَ فَصْل النِّزَاعِ مِنْ كَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ سَيِّد الْيَهُودِ الذِي كَانَ يَفْصِلُ النِّزَاعَ بَيْنَ النَّاسِ، وَكَانَ طَاغُوتًا كَمَا سَيَأْتِي مَعَنَا فِي حَدِّ الطَّاغُوتِ، أَنَّ الطَّاغُوتَ مِنْهُ مَا هُوَ طَاغُوتُ الحُكْمِ، وَفَسَّرَ السَّلَفُ طَاغُوتَ الحُكْم بِكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَسَمَّوْهُ طَاغُوتًا)، فَأَنْزَلَ اللهُ تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذِين يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ (٦٠)} النّساء، وَهُوَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ” تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: “المُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَة: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} النّساء – مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِمَّنْ أَرَادَ التَّحَاكُمَ إِلَى الطَّاغُوتِ وَفِيهِمْ أُنْزِلَتْ» الجَامِعُ لِأَحْكَامِ القُرْآنِ .

  • فَطَلَبُ التَّحَاكُم إِلَى الطَّاغُوت يَكُونُ بِالْقَوْلِ “اذْهَبْ بِنَا نَتَحَاكَم إِلَى كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ”، هَذَا هُوَ طَلَبُ التَّحَاكُمِ إِلَى الطَّاغُوت، وَهُوَ إِرَادَةُ التَّحَاكُمِ إِلَى الطَّاغُوتِ الذِي كَفّرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَا، فَكَيْفَ بِمَنْ ذَهَبَ وَجَلَسَ وَتَحَاكَمَ وَفَصَل النِّزَاعَ، وَرَدَّ هَذَا النِّزَاعَ إِلَى غَيْرِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ أَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ وَأَحْكَامِ الطَّوَاغِيتِ !!!.
  • نَقِفُ هُنَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَشْهَدُ أَن لَاإِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ .
  • يتبع الجزء الثّالث إن شاء الله …🖋

سراج الطريق

نحن نزاعٌ من القبائل حققوا البراءة من هذه الجاهلية النكراء … نحن الغرباء الذين تقلدوا لواء الإصلاح … بقايا الحنفاء من يُصلحون إذا فسد الناس … نحن القلة المستضعفة … القلة التي تفر بدينها … القلة السالكة المستوحشة … الحاملون لجراح أمتهم … سراج الظلم في تيه الجاهلية … الأمل في عود الضياء … عِصابة المسلمين وعصارة الموحدين في زمن أقفر ما بين لبنتيها من المسلمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى