السلاسل العلميةسلسلة تعلموا الإسلام

البراءة من الشرك وأهله ٢: الدرس الثامن

سلسلة تعلَّموا الإسلام | لفضيلة الشيخ محمد بن سعيد الأندلسي - حفظه الله تعالى الدرس الثامن _ البراءة من الشرك وأهله ٢

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين أما بعد :

-فلا يزال الحديث متواصلا في شرح حقيقة الإسلام، توقفنا عند الركن الثالث من أركان الإسلام وهو : البراءة من الشرك وأهله، وقد سبق معنا في المجلس السالف التلازم بين البراءة من الشرك والبراءة من المشركين، والبراءة من المشركين هي براءة من أعيانهم وأجناسهم وبراءة من القرى والديار الكافرة، فالله تبارك وتعالى كفر أعيان المشركين وكفر أجناسهم، وكفر كذلك قراهم وديارهم كما قال جل وعلا: «فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ»، وقال تعالى: «وَتِلْكَ ٱلْقُرَىٰٓ أَهْلَكْنَٰهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا» فتكفير القرى والديار إنما هو تكفير لعموم أهل القرى والديار، فالمقصود “بالقرى” هي: أهلها، وليس المقصود بالقرى -البنيان أو الجدران- ونحو ذلك … بل القصد من “القرية” إنما هو “أهلها” كما قال تعالى: «وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ».

فالسؤال هنا موجه لأهل القرية كما أن الهلاك يتوجه إلى أهل القرية، كما أن التكفير يتوجه لأهل القرية كما قال تعالى: «وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ ٱلْقُرَىٰ وَصَرَّفْنَا ٱلْآيَٰاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» فالمقصود من الخطاب الشرعي هم -أهل الدار وأصحاب القرية- كما في قوله جل وعلا: «وَالمسْتضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا» يقول الأزهري: “المشرك أهلها”، كذلك في خطابات الشرع قال تعالى: {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} وقال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} وقال تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} وقال تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ} وقال تعالى {إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ} فهذه الآيات فيها دلالة ظاهرة على صحة إطلاق الكفر على عموم أهل القرى وديار الكفر، كذلك ورد في الشريعة إطلاق الإسلام على عموم دار الإسلام التي فيها أهل الاسلام، فالدار داران: دار كفر، ودار إسلام، فدار الإسلام: يطلق على أهلها الإسلام وأهلها فيها مسلمون، كذلك دار الكفر أهلها فيها كفار، دار الكفر يعني: الدار التي تعلوها أحكام الكفر، وأهلها ظهرت فيهم المناطات واستفاض وظهر فيهم الكفر كما سيأتي بيانه.

فدلت النصوص التي سبق ذكرها على صحة إطلاق الكفر على عموم أهل القرى وديار الكفر وهذا الإطلاق إنما هو باعتبار الظاهر الذي تجري عليه الأحكام في الدنيا وهو منطوق كتاب الله تبارك وتعالى، ويصح إطلاق الكفر على دار الكفر ولو كان فيها خصوص أو قلة موحدة، فإطلاق عموم الكفر مع وجود القلة الموحدة فيها هو إطلاق صحيح ودل عليه منطوق كتاب الله تبارك وتعالى كما قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (٣١) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ}يقول الطبري: «وقال إبراهيم للرسل من الملائكة إذ قالوا له: فلم يستثنوا منهم أحدا إذ وصفوهم بالظلم: {إِنَّا مُهْلِكُوٓاْ أَهْلِ هَذِهِ ٱلْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ}.

-فعمموا الحكم على أهل تلك القرية وفيها لوطا ومن معه من المسلمين-.
قال: {إنا فيها لوطا} -هو استدرك إبراهيم- و ليس من الظالمين بل هو من رسل الله وأهل الإيمان به والطاعة له، فقالت الرسل له: {نحن أعلم بمن فيها} يعني: من الظالمين الكافرين بالله منك، وإن لوطا ليس منهم، بل هو كما قلت من أولياء الله”.

إذا يصح إطلاق الكفر على عموم القرى وكذلك الديار وإن كان فيها خصوص الموحدين أو قلة موحدة فيكون الإطلاق صحيحا بنص كتاب الله جل وعلا ودلت عليه كذلك آية الأعراف كما قال تعالى: «وَٱتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِنۢ بَعْدِهِۦ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُۥ خُوَارٌ»، «وَٱتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ» فنسب الاتخاذ إلى عموم قوم موسى وليس الكل اتخذ العجل، فالله تبارك وتعالى قال في هارون ومن معه: «وَلَقَدْ قَال لَهُمْ هَرونُ من قَبْلُ يَٰقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ» فأقام هارون فيمن تبعه من المسلمين على الدين الحق ولم يفتتن.

ولا شك أن عموم الناس في مثل هذه الديار التي نعيش فيها -هذه البلدان العربية التي تنتسب إلى الإسلام- أكثر وعموم الناس هم على الشرك بالله تبارك وتعالى والكفر به وهذا لا ينكره إلا جاحد أو مكابر أو رجل جهمي لا يعرف الكفر من الإسلام، فالكفر في هذه الديار استفاض واشتهر وانتشر وكما قال الإمام أحمد: «إذا كان الشيء مستفيظا فاشهد به»، وقال ابن القيم: “فَالِاسْتِفَاضَةُ: هِيَ الِاشْتِهَارُ الَّذِي يَتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ، وَفَاضَ بَيْنَهُمْ” … كخروج الشعوب بالملايين يطالبون بالكفر ويطالبون بالديانة الديمقراطية، واسترداد الحكم -وأن الحكم للشعب- كما هي الشعارات الكفرية في هذه التجمعات والثورات المليونية أو الدعوات التي تطلق في مثل هذه المسيرات والملتقيات … فهذا لا شك أنه استفاضة من هذه الشعوب في هذه الديار.
كذلك إطباق الناس على معتقدات الجهمية، ومنها أوجه كثيرة جدا لاستفاضة الكفر في مثل هذه الديار يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى في ذكر مناطات كفر هذه الشعوب.

ومشروعية الحكم بالاستفاضة حُكي فيه الإجماع … حكى الإجماع حمد بن عتيق على مشروعية الحكم بالاستفاضة في حكم أهل مكّة وما يقال في البلد نفسه فقال: “وأمّا إذا كان الشّرك فاشيا، مثل: دعاء الكعبة والمقام والحطيم، ودعاء الأنبياء والصّالحين، وإفشاء توابع الشّرك، مثل: الزّنا والرّبا وأنواع الظّلم، ونبذ السّنن وراء الظّهر، وفشو البدع والضّلالات، وصار التّحاكم إلى الأئمّة الظّلمة ونواب المشركين، وصارت الدّعوة إلى غير القرآن والسّنة، وصار هذا معلوما في أيّ بلد كان، فلا يشكّ من له أدنى علم أنّ هذه البلاد محكوم عليها بأنّها بلاد كفر وشرك، لا سيّما إذا كانوا معادين أهل التّوحيد، وساعين في إزالة دينهم، وفي تخريب بلاد الإسلام، وإذا أردت إقامة الدّليل على ذلك وجدت القرآن كلّه فيه، وقد أجمع عليه العلماء، فهو معلوم بالضّرورة عند كلّ عالم».

ونقول: أن الفرد من هذه الديار ملحق بالعموم والكثرة .. فالفرد يلحق بهم في الأسماء والأحكام، قال ابن تيمية: “وأنّا إذا تأملنا أكثر الصُّوَر وجدنا الحكم فيها مضافًا إلى تلك الحكمة المعلومة الظاهرة فيُلحَق الفردُ بالأعم الأغلب كما إذا علمنا أن الغالب على أهل بلدةٍ صفة ثم رأينا واحدًا منهم سَحَبْنَا عليه ذلك الغالب ولذلك جاز قتلُ مَن دار الحرب ومَن في صَفِّ الكفّار مع تجويز أن يكون مسلمًا” … وهذه القاعدة (إلحاق الفرد بالأعم الأغلب) هي قاعدة أصولية كلية دلت عليها الأدلة من الكتاب والسنة وقد بينت ذلك في كتاب أحكام الديار مفصلا بأدلته ، فليراجع …

لا بد أن ننبه على أن إطلاق الكفر على عموم القرى والديار لا يتناول القلة المُستعلِنة بدينها أو خصوص الموحدين الذين قد استعلنوا بالدين، فهذه القلة المستعلنة هي قلة مخالفة لما عليه القوم من كفر وشرك وقد أظهرت أمرها مثل : الرسل وأتباعهم بين القرى الكافرة وأقوامهم الكافرين، فالرسل وأتباعهم قد فاصلوا أقوامهم في الدين وأظهروا الدين وكانوا من الناجين لما أعم الله العذاب كما قال: {لَنُنَجِّيَنَّهُۥ وَأَهْلَهُۥٓ إِلَّا ٱمْرَأَتَهُۥ كَانَتْ مِنَ ٱلْغَٰبِرِينَ} … فهي قلة ظاهرة … ناجية … لا تجري عليها أحكام الكفار.

وهناك قلة أخرى في ديار الكفر وهي قلة مستخفية بدينها، وهذه القلة المستخفية التي لا تظهر دينها في دور الكفر يتناولها الحكم العام ويجري عليها الكفر العام في الدنيا.
وهناك فروق بين الطائفة المستعلنة الظاهرة بدينها مثل الرسل وأتباعهم بين قوم كفار، وكل من أظهر دينه في هذه الأقوام … وهذه القلة لها أحكام، وهي طائفة مسلمة أظهرت الدين ولا تجري عليها أحكام الكفر في الدنيا لوقوع التمييز بينها وبين عموم الكفار،

أما القلة المستخفية في هذه الديار فهي طائفة يجري عليها أحكام الكفر وتلحق بالكثرة الكافرة في الأسماء والأحكام في الدنيا، لعدم التمييز بينها وبين عموم المشركين في هذه الدار.

والحكم في أن المستخفي بدينه -أنه تجري عليه أحكام الكثرة … حكم بينته السنة غاية البيان كما ورد في حديث عائشةَ رضي الله عنها، قالت: قالَ رسول الله ﷺ: «يغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ فإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الأَرضِ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وآخِرِهِمْ» قَالَتْ: قلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ يُخْسَفُ بأوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ وَفِيهمْ أسْوَاقُهُمْ وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ؟!» قَالَ: «يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيّاتِهم»، وفي رواية مسلم: «فقلنا : إن الطريق قد يجمع الناس، قال: نعم فيهم المستبصر والمجبور وابن السبيل» وفيهم ومن ليس منهم -أي: أن الناس قد تجمعت في هذا الجيش … فمنهم المستبصر والمجبور وابن السبيل ومنهم من لا يقصد لتخريب الكعبة والكفر بالله تبارك وتعالى …

فيهم الأسارى وفيهم الضعفاء …، قال: ”يبعثون على نياتهم” يعني: يكون العذاب واحدا والحكم واحد -وهو عموم العذاب- ثم يبعثون بعد ذلك على نياتهم فيحاسبون على مقاصدهم وعلى نياتهم، فيكون العذاب في الدنيا عاما والحكم في الدنيا عاما على ظاهرهم ويكون الحساب في الآخرة على البواطن والنيات وحقيقة أمرهم.

كذلك حكم المستخفي بإيمانه في دار الكفر فله حكم قومه ظاهرا وتجري عليه أحكام الكفار باعتبار الظاهر وهذا بنص كتاب الله تبارك وتعالى، أما في حقيقة أمره فهو مسلم وإذا مات على إسلامه فهو من أهل الجنة، أما في الدنيا فالله تبارك وتعالى قد تعبدنا بالحكم على الظاهر، يدل عليه قوله جل وعلا: {هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْهَدْىَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُۥ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَٰتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَـُٔوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌۢ بِغَيْرِ عِلْمٍۢ لِّيُدْخِلَ ٱللَّهُ فِى رَحْمَتِهِۦ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} هذه الآية هي آية عظيمة في بيان أن في دار الكفر يوجد رجل ظاهره الكفر وباطنه الإسلام -فالناس أربعة كما سيأتي ذكرها، -منهم المستخفي بدينه- والشاهد في الآية أن تعالى قال: «هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْهَدْىَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُۥ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَٰتٌ»،

فهنا الله تبارك وتعالى قيد الرجال والنساء بالإيمان لأنه قال في أول الآية: «هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ» لو قال رجال ونساء لدخلوا في عموم قوله: «هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ» فقيد الرجال والنساء بالإيمان ليخرجوا من عموم قوله: «هم الذين كفروا» ثم قال جل وعلا: «لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَـُٔوهُمْ» يعني: أن تقتلوهم لم تعلموهم لاختلاطهم بالمشركين، -وهنا الحديث حول المستضعفين الذين كانوا في مكة … فالله تبارك وتعالى يخبر أنه لو مكن أو أذن للمسلمين بقتال الكفار في عام الحديبية لقتلوا هؤلاء المستضعفين بغير علم لأنهم لا يعلمون أنهم يكتمون إيمانهم قال: «لم تعلموهم» -يعني: هؤلاء المستضعفين الذين يخفون إيمانهم أو المستخفين بإيمانهم لم تعلموهم لاختلاطهم بالمشركين وهم يكتمون إيمانهم، فيجري عليهم حكم الكفار ظاهرا من القتل، ثم قال: « أن تطؤوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم» والمعرة هي: الدية، أما الإثم فلم يحسبوا عليهم … وذلك لأن الإنسان يحكم على ظاهر الناس ويحكم بظاهر علمه ولا يعلم أن هذا الإنسان يخفي إسلامه لأنه يوافق القوم في الظاهر، فالحكم إنما يجري على ظاهر الناس في مثل هذه الديار.
فهذه الآية فيها دلالة عظيمة على أن المؤمن الذي يكتم إيمانه بين قوم كافرين يجري عليه حكم القوم في علم المكلف -في علمك أنت- لأن الإنسان لا يستطيع أن يميز بين حقائق الناس، ولا يستطيع أن يميز أن هذا باطنه الإسلام وهذا باطنه الكفر وإنما يجري الحكم على عموم الناس، وليس هناك تمييز بين هذا المستخفي وغيره فيحكم على عموم الناس بما ظهر له به في ظاهره فهذا الفرد تبع لقومه في علم المكلف -وعلم المكلف- هو: الذي تتعلق به الأحكام … فالمسلم لم يؤمر بالتنقيب على بواطن الناس.

ابن القيم ذكر أن أقسام الناس أربعة في الهدى الذي بعث به النبي صلى الله عليه وسلم: “وعلى هذا فالناس إما مؤمن ظاهرا وباطنا، وإما كافر ظاهرا وباطنا، أو مؤمن ظاهرا كافر باطنا، أو كافر ظاهرا مؤمن باطنا، فالأقسام أربعة قد اشتمل عليها الوجود قد بين القرآن أحكامها”، فالأقسام الثلاثة الأولى هي في مقدمة سورة البقرة وهو المؤمن ظاهرا وباطنا وهذا هو المسلم المؤمن، والكافر ظاهرا وباطنا، والمؤمن ظاهرا والكافر باطنا هذا هو المنافق، وبقي الْقِسْمُ الرَّابِعِ قال: “الَّذِينَ يَكْتُمُونَ إِيمَانَهُمْ وَلَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ إِظْهَارِه فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَٰتٌ﴾ فَهَؤُلَاءِ كَانُوا يَكْتُمُونَ إِيمَانَهُمْ فِي قَوْمِهِمْ وَلَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ إِظْهَارِهِ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ الَّذِي كَانَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ…”.

إذا فالقسمة أربعة في الشرع : مؤمن، وكافر، ومنافق، ومستخف بإيمانه، وهذه القسمة قسمة رباعية وهي قسمة دل عليها العقل ودل عليها الشرع فلا يوجد قسم خامس … لا يوجد مجهول الحال الذي يتكلم عنه هؤلاء المجهولية والظنية، فالله تبارك وتعالى قد بين أحوال الناس: فالرجل إما أن يكون مسلما ظاهرا وباطنا، أو يكون كافرا ظاهرا وباطنا، أو يكون منافقا يعيش في دار الاسلام حكمه حكم القوم، والنبي صلى الله عليه وسلم قد عامل المنافقين في دار الإسلام بظاهر الإسلام وكان يعلم بواطنهم، حتى تعلم أن الباطن ليس محلا للحكم، لأن الله قد تعبدنا بالحكم

على الظاهر، فالمنافق في دار الإسلام قد أظهر الإسلام وأظهر موافقة القوم فالحكم له بظاهر الإسلام، أما الباطن فليس محلا للحكم إلا إذا ظهر هذا الباطن كما قال تعالى: «وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ» وهؤلاء كانوا من أهل النفاق فلما أظهروا الكفر حكم لهم بالكفر، فالنبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل النفاق بظاهر الإسلام … وأهل النفاق هم قلة في دار الإسلام -وهذه القلة تبطن الكفر وتظهر الإسلام-، وفي دار الكفر كذلك موجودة قلة مستخفية بدينها -تبطن الإسلام وتظهر موافقة القوم- ولا تظهر الظاهر المعتبر الذي سنذكره إن شاء الله تعالى في هذه الديار … فلم يجهروا بالتوحيد ولم يقوموا مقام إظهار التوحيد كما قام لذلك الأنبياء كما قال إبراهيم: «أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ».

فالأنبياء قامت في قومها وأظهرت التوحيد، أما هذا المستخفي فيستخفي بإيمانه كمؤمن آل فرعون كما قال الله تبارك وتعالى في حاله في سورة غافر، فذكر الله تبارك وتعالى مؤمن آل فرعون وهو كان يستخفي بإيمانه، ويظهر الموافقة لفرعون وملأ فرعون.
كذلك هذا المستخفي الذي يعيش في دار الكفر وحاله وظاهره أنه مع القوم.
فالمسلم الذي ينظر في عموم الديار فيحكم على عموم الديار بالكفر، فمن أظهر الظاهر المعتبر في هذه الديار فيحكم له به -من أظهر الإسلام حكمنا له بالإسلام-، أما هذا المستخفي الذي لا يظهر الإسلام و ظاهره أنه مع القوم ومن القوم فنحكم له بالظاهر -وهو في حكم القوم- ويجري عليه حكم القوم ظاهرا، أما الحقائق فهي لله تبارك وتعالى يحكم بها يوم تبلى السرائر، والله تبارك وتعالى قد تعبدنا بالحكم بالظاهر … فالظاهر في دار الإسلام هو الإسلام، فإذا وجدنا رجلا في دار الإسلام فنحكم له بالإسلام ولو كان منافقا، فقد يكون هناك غلط في الحكم في دار الإسلام باعتبار أن هذا منافق وحكمنا له بالإسلام .. وهذا الزنديق حكمنا له بالإسلام، والزنادقة والمنافقون موجودين في دار الإسلام ولكننا نعمم الحكم في دار الإسلام بالإسلام … فالفرد في دار الإسلام له حكم الإسلام، كذلك في دار الكفر التي ظهر فيها الكفر واستفاض فيها الكفر فالحكم هو بالكفر إلا من أظهر الظاهر المعتبر
الذي هو مخالفة القوم -أظهر الظاهر المعتبر- من مخالفة ما انتشر واشتهر واستفاض في هذه الديار من كفر وديانة باطلة فنحكم له بهذا الظاهر المعتبر، أما من كان من القوم ولم يظهر هذا الظاهر فحكمه حكم القوم والإنسان قد يخطئ في الحقيقة ولكنه متعبد بالظاهر … فالله تبارك وتعالى قد تعبدك بالحكم على ظاهر القوم، والحكم إنما يبدأ من الأعلى إلى الأسفل، فتحكم على الدار وتحكم على القوم، ثم تسحب هذا الحكم على جميع أهل الديار وهذا هو المنهج الذي دل عليه كتاب الله جل وعلا وسنة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب، فالحكم إنما يكون للقوم ثم الفرد تبع للقوم قال تعالى: «إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ»، والنبي صلى الله عليه وسلم في الحديث قال: «هم منهم» لما سئل في حديث الصعب بن جثامة على قوم يبيتون الكفار وقد يقتلون نساءهم وأولادهم قال: «هم منهم» فألحق الفرد بالعموم … فالحكم إنما يكون حكم على الديار، -ما حكم هذه الدار؟- … دار مسلمة … -ما حكم القوم؟ مسلمون، إذا فكل من ينتسب لذلك القوم فهو مسلم حتى يتبين الخلاف حتى إذا أظهر ناقضا من نواقض الإسلام … أو أظهر تجهما … أو أظهر رفضا -والسلف كانوا يحكمون على الرافضة أو الجهمية والمعتزلة في دار الكفر بالردة لأن حكم الإسلام مستصحب في حقهم … لأن الدار هي دار إسلام، فمن أظهر الزندقة أوأظهر الرفض أو التجهم حكم له بالردة.

كذلك في دار الكفر فالحكم المستصحب فيها هو الكفر، وإذا كان إنسان يعيش في تلك الدار فله حكم الدار، ونحن نتكلم عن الدار التي تأصل فيها الكفر واستفاض فيها الكفر، وإذا كفر الحاكم لا يكفر المحكوم … وقد كفر الواثق وكفر المعتصم ولم يكفر عموم الناس فكانوا على دين أهل الحديث والأثر كما ورد في الروايات، ولكن إذا ظهرت المناطات من المجموع وظهر الكفر من العموم -طبعا والطواغيت معلوم حالهم- ثم ظهر الكفر من الناس، فالناس من تنصب هذه الطواغيت -من ينصب الطواغيت … من يعزل الطواغيت؟ أليس هو الشعب، لذلك ففي دين الديمقراطية – الحكم للشعب … فهناك كفر للقوم .. ونحن لانتكلم على الدار فبعضهم يربط الدار بالحكام، نحن نتكلم على القوم -عموم القوم في هذه الديار- ما حالهم … ما حكمهم؟ … نقول: عمومهم كفار وأكثر الناس على الكفر … وكل من يقطن في هذه الدار هو كافر، فالحكم في دار الكفر أو في القوم الكفار كالحكم في القوم المسلمين …

ففي دار الإسلام موجود قلة تبطن الكفر وتظهر الإسلام وهم المنافقون، وقد حكم لهم النبي صلى الله عليه وسلم بظاهر القوم وهو الظاهر الذي ظهر منهم وهو موافقة الإسلام في الظاهر، كذلك في دار الكفر موجود قلة مستخفية بدينها وتظهر الموافقة للقوم فلها حكم الظاهر.

• نقف عند هذا سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .

يتبع بالدرس التاسع إن شاء الله …

سراج الطريق

نحن نزاعٌ من القبائل حققوا البراءة من هذه الجاهلية النكراء … نحن الغرباء الذين تقلدوا لواء الإصلاح … بقايا الحنفاء من يُصلحون إذا فسد الناس … نحن القلة المستضعفة … القلة التي تفر بدينها … القلة السالكة المستوحشة … الحاملون لجراح أمتهم … سراج الظلم في تيه الجاهلية … الأمل في عود الضياء … عِصابة المسلمين وعصارة الموحدين في زمن أقفر ما بين لبنتيها من المسلمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى