السلاسل العلميةسلسلة الكواشف الجلية في الرد على شبهات الشعائرية

الشعائر المشتركة : الدّرسُ السّادسُ والأخير : الجزءُ الثَّانِي

الجزءُ الثَّانِي: الشبهة الثانية في مبحث الشعائر المشتركة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين أما بعد . . .
الشبهة الثَّانية في مبحث الشعائر المشتركة، قولهم أنَّ هناك نصوصا واضحة في بيان أنَّ الشعائر معتبَرة في الحكم بالإسلام على الأعيان، وهي صالحة لكل مكان وزمان، وليس هناك ناسخ لها فلا يتم إلغاؤها أو نسخها بغير ناسخ.

نقول: أنّ مِن السداد في مثل هذه المسائل الدقيقة، لمن تعنَّى بالنظر فيها أن يدقق النظر في فقه الواقع الذي نزلت فيه النصوص، والعمل الذي كان عليه الصحابة، لأنّ قطع النّصوص عن واقعها لا شك أنه مَدعاةٌ إلى الحيدة بها إلى غير تنزيلها، ويكون بذلك نظر في المسألة ككل من زاوية ضيقة ومن نصوص بعينها في وقائع خاصة مجردة عن ما ورد من النصوص في الباب ككل، فيؤدي حتمًا إلى ضرب النّصوص بعضها ببعض، لمن قَصُر نظره عن الإحاطة بجملة الأدلَّة، وحُرِم الفهم الصحيح فضاق صدره بما ضاق به علمه فخبَط خبطَ ناقة عشواء، ونسب إلى الشرع ما ليس منه، فنسأل الله تبارك وتعالى الهداية والرشاد، والفقه والسداد.
نقول أن الصحابة كانوا في مكة قلة بين كثرة مشركة في دار كفر يفتتن فيها من لا عصبة له، ولا جوار، كان الإسلام غريبًا وحامله طريدًا وقريش قد استعلنت بعدائها للإسلام وأهله، وفي مثل هذه الدار وبين هؤلاء القوم الوثنيين، نقول أنه لا يُحكَم بإسلام العين إلا مَن تكلم بالإسلام وأظهره وفارق بذلك دين قومه المشركين، هذا الظاهر يتميز به المسلم عن المشرك الوثني، وتحصل به المفاصلة للجاهلية السائدة في مكة آنذاك، وهو خلاف ما أظهره القوم من الشرك واتباع دين الآباء، وإنكار النبوَّة، وهو ظاهر معتبر يرفع الأصل المتقرر في مثل هذه الدار أيْ مكّة، نقول أنّ العرب في ذلك الحين كانوا يعرفون معنى لا إله إلا الله، ويعلمون مدلول معنى لا إله إلا الله الذي هو إفراد الله عز وجل بخصائصه في الألوهية، والربوبية، والحكم، والاتّباع، وأنها تقتضي خلع الأرباب والأنداد، ومفارقة دين الآباء والأجداد، كما روى إسحاق قال: « ثم إنّ أبَا بكر لَقِيَ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أحق ما تقول قريش يا محمد من تركك آلهتنا، وتسفيهك عقولنا، وتكفيرك آباءنا» سيرة ابن إسحاق، فأقرّها النبي صلى الله عليه وسلم، يعني قريش كانت تعلم أن محمد عليه الصلاة والسلام كان يأمر بترك الآلهة، وكان يسفّه عقول عابدي الآلهة، وكان يكفر آباءهم، فهذا كان يعلمه أهل قريش من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يعلمه قومنا من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فقول المسلم في ذلك الحين لا إله إلا الله بين هؤلاء القوم في تلك الدار، نقول أنّ قائلها كان يخرج من دينه، ويفاصل قومه، ويستسلم لله تبارك وتعالى بالتوحيد، والانقياد لله عز وجل بالحكم والطاعة والاتباع، فكان المسلم يقولها معتقدًا لمعناها الذي يعرفه من لغة العرب وواقع الحال، فيصير به مؤمنا، وكان المشرك يجحد لفظها لما يجحده من معناها الذي يعرفه من لغة العرب وواقع الحال فيصير بها جاحدًا مكذِّبًا، فبهذه الكلمة تمايزت الصفَّان، وبانت السبيلان، فكان الظاهر المعتر في التمييز بين المسلمين والمشركين في دار كفرٍ أهلها وثنيون لا يتكلمون بالإسلام، هو النّطق بالشّهادتين مع العلم بمعناها وما تضمنته من البراءة من الشرك وأهله، يعني لابد من النّطق بالشهادتين مع العلم بمعناها، وكذلك مَن كان في دار قوم أهلها أهل كتاب، فالظاهر المعتبر في الحكم على الأعيان بالإسلام هو النّطق بالشهادتين، وأن عيسى عبدالله ورسوله، وأنّ محمد صلى الله عليه وسلم بُعِثَ للنّاس كافَّة، واعتقاد ما تضمنته الشهادة من إفراد الله عز وجل بالحكم والتَّشريع وعدم اتخاذ الأرباب في الحاكميَّة والاتباع، كما يفعل أهل الكتاب في هذا الزمان من اتخاذهم الأحبار والرهبان يشرعون لهم، ويحلون، ويحرمون، كما هو صنيع قومنا في هذا الزمان.
نقول أنّ هذا المعنى الذي هو معنى الشهادة وهو البراءة من الشرك بالله تبارك وتعالى، والبراءة من المشركين، و عدم اتخاذ الأرباب في الحاكمية والاتباع، هذا المعنى يجب أن ينطق به لتتحقق المفاصلة، لأنّ النّاس في هذا الزمان، من أهل الكتاب ومن الوثنيين لا يعرفون ولا يفهمون من الشهادة ما كان يفهمها أهل القرن الأول، لأنهم ليسوا بعرب يفهمون من الشهادة ما كان يفهمها أبو جهل وكذلك أبو لهب ونحوه، فنقول أنّ هذه المعاني التي تضمنتها لا إله إلا الله لا يصح ولا تنعقد لا إله إلا الله إلا بها، يقول الشافعي: “فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده حتى يشهد به أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، ويتلو به كتاب الله وينطق بالذِّكْر فيما افترض عليه من التكبير، وأُمِر به من التسبيح والتشهد وغير ذلك” الرسالة.

ننتقل إلى واقع آخر بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وقيام دولة الإسلام التي آوى إليها المهاجرون المستضعفون، واستعلنت فيها شعائر الإسلام، وقامَت فيها شرائِعه، فالأصل في هذه الدار هو الإسلام كما قال ابن رجب: «إذ الأصل في دار الإسلامِ الإسلامُ» القواعد لابن رجب، وكما هو معلوم ومشهور، وهذا الأصل لا يُنتَقَل عنه إلا بظهور الكفر كما قال تعالى: {لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم}، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: « من بدَّل دينه فاقتلوه » رواه البخاري، فالحكم على الأعيان في دار الإسلام بالإسلام لأنّ الدار لا تُقِرُّ مرتدَّا على ردته، أما شعائر المسلمين في دار الإسلام كانت خاصة بالمسلمين في ذلك الحين، فمن فعلها من وثنيّ أو كتابيّ قد يُحكَم له بالإسلام على قول بعض الفقهاء، كما سبق معنا إيراد الخلاف بين الفقهاء في مسألة الشعائر، هل يُحكم بها بالإسلام، أو لا يُحكم بها بالاسلام، ومن قال أنه يُحكَم بالشعائر كالحنابلة وبعض الفقهاء اِستدلَّ بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كتب إلى أهل اليمن: “من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذلكم المسلم، له ذمة الله، وذمة رسوله ومن أبي عليه الجزية” رواه ابن أبي شيبة، وغير ذلك من الأحاديث في هذا الباب، مما يؤيد هذا الأصل ويستدل به في الباب الشروط العمرية التي فرضها عمر رضي الله عنه على أهل الذمة في دار الإسلام وذلك للتمييز بينهم وبين المسلمين، لئلّا تجري عليهم أحكام المسلمين، لأن أهل الذّمة لو تُرِكوا دون تمييز اختلطوا بالمسلمين، ووقع الاشتباه، والاشتراك، فأُلزِموا بالغيار، جاء في الشروط: “وأن نُلزَم زيّنا حيثما كنّا، وألّا نتشبه بالمسلمين في لبس قلنسوة، ولا عمامة، ولا فرق شعر، ولا في مراكبهم” قال أبو القاسم الطبري في سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم مما يدل على وجوب استعمال الغيار لأهل الملل الذين خالفوا شريعته صغارا وذلّا وشهرة، وعلما عليهم ليُعرفون من المسلمين في زيّهم ولباسهم، ولا يتشبهوا بهم، وقد كتب عمر إلى الأمصار: “أن تُجَزَّ نواصيهم، وألّا يلبَسوا لُبسة المسلمين حتى يُعرفوا” أحكام أهل الذمة. ووجه إيراد المسألة هنا هو بيان أنّ الأصل في دار الإسلام هو الإسلام، لذلك احتاج عمر إلى التمييز بين أهل الذمة والمسلمين، وكان فيه بيان أنّ الظاهر المعتبر لأهل الذمة في دار الإسلام هو المغايرة في اللباس، والمركب، وإلزامهم بذلك، ونهيهم عن الاشتراك مع المسلمين في زِيِّ، أو مركب، أو خصيصةٍ، لئلّا تجري عليهم أحكام المسلمين خطأ لعدم التمييز، فدلَّ على أنَّ الظَّاهر المعتبر للقلّة المخالفة لدين القوم، هو ما تظهر به المخالفة، ولا يكون فيه اشتراك، وهذا كأصل في هذا الباب أنّ الظاهر المعتبر في قوم هو ما تتحقق به المغايرة لهم.

ننتقل إلى واقع آخر وهو بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وارتداد العرب في مثل الواقع الذي كان فيه الناس في جزيرة العرب، فنقول: أنّه قد تعارض إظهار الشعائر من الدور التي ارتدت مع ظهور الشرك وعلو أحكامه ومشاهده، والامتناع عن بعض الشرائع، فنقول أنَّ مع هذا الواقع الذي وُجد في جزيرة العرب، فالصحابة إنّما قدَّموا الظّاهر الأقوى في هذا الباب، وحكموا بالإسلام لمن أظهر المخالفة لتلك الأقوام، فيما أظهروه من كفر وشرك، وهذا قد ذكرناه في غير ما موضع في سلسلة الهداية، وذكرنا الأدلة من كتاب الله تبارك وتعالى وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك ذكرنا إجماع الصحابة على عدم العمل بالشعائر، وكانت في تلك الديار الشعائر غير معتبرة في الحكم بالإسلام على العين، وإنما الحكم يكون بإظهار المخالفة لِما أظهره القوم من كفر وشرك، وذكرنا آثارا كثيرة في ذلك منها ما نقلناه عن ثُمامة فيما أظهره قومه بني مسيلمة، هذه إن شاء الله تعالى عرض اختلاف الواقع والنظر في كل واقع باعتباره، ثم ننظر في الأدلة التي وردت وننزلها على الواقع الذي وردت فيه، وألّا نحكّم بعض النصوص على بعض الوقائع المغايرة لها، فهذا لا شك أنّه مزلّة وعدم فقه للنصوص الشرعية.

🖋 نقف عند هذا .. سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.

🖋 انتهى الجزء الثاني من الدرس السادس.

سراج الطريق

نحن نزاعٌ من القبائل حققوا البراءة من هذه الجاهلية النكراء … نحن الغرباء الذين تقلدوا لواء الإصلاح … بقايا الحنفاء من يُصلحون إذا فسد الناس … نحن القلة المستضعفة … القلة التي تفر بدينها … القلة السالكة المستوحشة … الحاملون لجراح أمتهم … سراج الظلم في تيه الجاهلية … الأمل في عود الضياء … عِصابة المسلمين وعصارة الموحدين في زمن أقفر ما بين لبنتيها من المسلمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى