السلاسل العلميةسلسلة الكواشف الجلية في الرد على شبهات الشعائرية

الشعائر المشتركة : الدّرسُ السّادسُ والأخير : الجزءُ الأوّل

الجزءُ الأوّل: الشبهة الأولى في مبحث الشعائر المشتركة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين أما بعد . . .
لا يزال حديثنا متواصلا في الكواشف الجلية، وقفنا عند المبحث الرابع والأخير وهو الشعائر المشتركة، الشبهة الأولى في هذا المبحث قولهم: أن الأصل هو الحكم بالشعائر وأن حكمنا بالشعائر رجوع مِنَّا للأصل واستصحاب له عند الالتباس والإشكال، ولا أظنكم تنازعون أن الأصل هو الحكم بالشعائر فهذا متفق عليه، لكن النزاع هل يصح الحكم بها في هذه الأعصار التي خفت فيها نور الإسلام، وهدمت قواعده ولا حول ولا قوة إلا بالله.
نقول في الرد على هذه الشبهة: أن هذا التأصيل الذي ورد هنا ليس بصحيح، لأن الشعائر هي دلالة من جملة الدلالات الظاهرة على الإسلام، ولا خلاف أن الشعائر إنما هي دلالة معتبرة في الحكم بالإسلام بقيود إذا كانت تقوى على التمييز والتخصيص، وكذلك إذا لم تعارَض بظاهر أقوى منها، أما المراد بالأصل عند أهل الأصول فهو القاعدة المستمرة والاستصحاب لحكم الإسلام في دار الإسلام، وكذلك استصحاب حكم الكفر في دار الكفر، كما قال ابن قدامة « لأن الأصل أن من كان في دار فهو من أهلها، يثبت له حكمهم ما لم يقم على خلافه دليل» المغني. أما الظاهر فهو ما يحصل بالمشاهدة والسماع ونحو ذلك، والفقهاء تكلّموا في تعارض الأصل والظاهر في مسائل متعددة في الفروع كما قال ابن رجب في: «القاعدة التاسعة والخمسون بعد المئة إذا تعارض الأصل والظاهر فإن كان الظاهر حجة يجب قبولها شرعًا، كالشهادة، والرواية، والإخبار، فهو مقدّم على الأصل بغير خلاف، وإن لم يكن كذلك بل كان مستنده العرف، أو العادة الغالبة، أو القرائن، أو غلبة الظن، ونحو ذلك، فتارة يُعَمل بالأصل ولا يُلتَفت إلى الظاهر، وتارة يعمل بالظاهر ولا يُلْتفت إلى الأصل، وتارة يخرج في المسألة خلاف، فهذه أربعة أقسام » كناب القواعد، ثم ذكر ابن رجب فروعًا للقاعدة في كتابه القواعد، وذكر فيها مجهول الدين كما سبق إيراده، ونقول أن بعض الفقهاء اعتبروا الشعيرة دلالة على الحكم بالإسلام، وبعضهم لم يعتبرها دلالة على الحكم بالإسلام، ومن اعتبرها كالحنابلة وغيرهم إنما اعتبروها بقيد الاختصاص دون الاشتراك بين طوائف الكفر، يقول السرخسي: «وعن سلمة قال: سألت الشعبي عن الصبي متى يُصلّى عليه؟؟ قال: إذا صلى فصلوا عليه. وتأويل هذا فيما إذا لم يسمع منه الإقرار بإسلامٍ، ولكنه صلى مع المسلمين بالجماعة، فإن ذلك يوجب الحكم بإسلامه عندنا، لأن المشركين لا يصلون بالجماعة على هيئة جماعة المسلمين، وإظهار ما يختص به المسلمون فعلا يكون بمنزلة إظهار ما يختص به المسلمون قولًا، فيصير به مسلما، . . . . فأما إذا صلى وأدّى الزكاة أو حج لم يُحكَم بإسلامه في ظاهر الرواية، وفي رواية داود بن رشيد عن محمد قال: إذا حج البيت على الوجه الذي يفعله المسلمون يُحكم بإسلامه، لأنه ظهر منه فعل ما يختص به المسلمون، فَيُجعل ذلك دليلا على إسلامه والله أعلم»، شرح السير الكبير. فترى أن تعليل الحكم بالإسلام عندهم لمن تلبّس بالشعائر إنما مداره على الاختصاص، فيُقيّد بالاختصاص، وعدم الاشتراك، وكذلك حكم الحنابلة كما قال ابن قدامة: «فصل: وإذا صلّى الكافر حُكِم بإسلامه، سواء كان في دار الحرب أو في دار الإسلام، صلى جماعة أو فرادى إلى أن قال وأما سائر الأركان من الصلاة والصيام والحج فلا يُحكم بإسلامه به، فإن المشركين كانوا يحجون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حتى منعهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: “لا يحج بعد العام مشرك”، والزكاة صدقة وهم يتصدقون، وقد فرض على نصارى بني تغلب من الزكاة مثلي ما يؤخذ من المسلمين، ولم يصيروا بذلك مسلمين، وأما الصيام فلكل أهل دين صيام، ولأن الصيام ليس بفعل وإنما هو إمساك عن أفعال مخصوصة في وقت مخصوص، وقد يتفق هذا من الكافر كاتفاقه من المسلم، ولا عبرة بنية الصيام لأنه أمر باطن لا علم لنا به، بخلاف الصلاة فإنها أفعال تتميز عن أفعال الكفار ويختص بها أهل الإسلام، ولا يثبت الإسلام حتى يأتي بصلاة تتميز بها عن صلاة الكفار، من استقبال قبلتنا والركوع والسجود ولا يحصل بمجرد القيام لأنهم يقومون في صلاتهم» المغني. فاعتبروا كما ترى الصلاة في الحكم بالإسلام لكونها من خصائص المسلمين، ولم يعتبروا الحج والصيام والزكاة مع كونها من الشعائر لاشتراكها وعدم اختصاصها، “وخالف المالكية والشافعية فقالوا: لا يْحكم بإسلام الكافر بمجرد صلاته، لأن الصلاة من فروع الإسلام فلم يصر مسلما بفعلها كالحج والصيام” الدسوقي على الشرح الكبير، وكذلك من الآثار الواردة في هذا الباب أن في آخر الزمان يصلي أقوام لا خلاق لهم كما روي عن عبد الله بن الديلمي قال: «تذهب السنة سنة سنة، كما يذهب الحبل قوة قوة، وآخر الدين الصلاة، وليصلينّ قوم لا خلاق لهم» البدع والنهي عنها، كذلك روي عن عبد الله بن عمرو قال: « يأتي على الناس زمان لا يبقى مؤمن إلا لحق بالشام، ويأتي على الناس زمان يجتمعون في المساجد ليس فيهم مؤمن» السنة للخلال، ويُستأنس بهذه الآثار على أن الصلاة تصير في آخر الزمان شعيرة مشتركة، ونقول أن الدّلالة عموما إذا اشتركت تفرّغَت عن الاختصاص والتمييز فلا اعتبار لها بعد ذلك، وهذا متقرر عند الفقهاء كما قال ابن نُجيم: « الأصل أن الكافر متى فعل عبادة، فإن كانت موجودة في سائر الأديان لايكون بها مسلما، كالصلاة منفردا، والصوم، والحج الذي ليس بكامل، والصدقة، ومتى فعل ما اختص بشرعنا ولو من الوسائل كالتيمم، وكذلك ما كان من المقاصد، أو من الشعائر كالصلاة بجماعة، والحج الكامل، والآذان في المسجد، وقراءة القرآن، يكون بذلك مسلمًا وإليه أشار في المحيط وغيره » المغني، يقول البغوي في قول النبي صلى الله عليه وسلم: « أُمِرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوا لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله »، قال: وقوله: “حتى يقولوا لا إله إلا الله” أراد به عبدة الأوثان دون أهل الكتاب، لأنهم يقولون لا إله إلا الله ثم لا يُرفَع عنهم السيف حتى يُقِرّوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو يعطوا الجزية »شرح السنة. نقول كذلك قومنا يقولون لا إله إلا الله، لذلك نقول أن الشعائر المشتركة غير معتبرة في مثل هذه الديار التي نعيش فيها، الديار التي علا فيها الشرك بالله تبارك وتعالى، لأن المشركين في مكة كانوا يطوفون بالبيت، وكانوا يحجون، ويتصدقون، ويصومون، وينذرون، ويعمرون المسجد الحرام، وكانوا يفكون العاني، ونحو ذلك من الشعائر التي هي من بقايا ملة إبراهيم التي كانوا ينتسبون إليها، وهي ظواهر غير معتبرة في مثل هذه الدار لعدم اختصاصها بطائفة معينة، كما روي عن ابن عباس في تأويله لقوله تعالى: { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر }، قال: العباس بن عبد المطلب حين أُسِر يوم بدر: لِئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد، لقد كنّا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاجّ ونفك العاني، قال الله تبارك وتعالى: { أجعلتم سقاية الحاج .. } الآية: يعني أن ذلك كان في الشرك، ولا أقبل ما كان في الشرك »تفسير الطبري. فهذه الشعائر التي تفاخر بها العباس غير معتبرة شرعًا مع ظهور الشرك بالله تبارك وتعالى، وكذلك هي غير معتبرة في التمييز بين المؤمن والكافر لكونها مشتركة بينهما، لذلك تصبح مفرّغة عن الدلالة، كذلك روي أن أهل الجاهلية كانوا يحجّون، وكانوا يصومون، وكانوا ينذرون، كما روي عن قيس بن أبي حازم قال : « دخل أبو بكر على امرأة من أحمس يقال لها زينب، فرآها لا تكلَّم، فقال ما لها لا تكلّم؟؟، قالوا حجّت مصمِتَة، قال تكلمي فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية» رواه البخاري، كذلك ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: « كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية» رواه البخاري، كذلك ما روي عن عبد الله بن عمر أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، قال: فأوفِ بنذرك » رواه البخاري، وغير ذلك من الشعائر التي كانت موجودة في مثل هذه الدار، يقول حمد بن عتيق : « فإن يكن قد غرّكم أنهم يصلون، أو يحجون، أو يصومون، ويتصدقون، فتأملوا الأمر من أوله وهو أن التوحيد قد تقرر في مكة بدعوة إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام، ومكث أهل مكة عليه مدة من الزمان، ثم إنه فشى فيهم الشرك بسبب عمرو بن لحي وصاروا مشركين وصارت البلاد بلاد شرك مع أنه قد بقي معهم أشياء من الدين، وكما كانوا يحجون ويتصدقون على الحاج وغير الحاج» مجموعة الرسائل والمسائل، لذلك نقول أن مثل هذه الدلالات إذا اشتركت تساقطت، ونرجع إلى الأصل ويُقدّم الأصل على مثل هذا الظاهر المشترك كما تقدم بيانه آنفا.

🖋نقف هنا . . سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.

🖋 انتهى الجزء الأول من الدرس السادس.

سراج الطريق

نحن نزاعٌ من القبائل حققوا البراءة من هذه الجاهلية النكراء … نحن الغرباء الذين تقلدوا لواء الإصلاح … بقايا الحنفاء من يُصلحون إذا فسد الناس … نحن القلة المستضعفة … القلة التي تفر بدينها … القلة السالكة المستوحشة … الحاملون لجراح أمتهم … سراج الظلم في تيه الجاهلية … الأمل في عود الضياء … عِصابة المسلمين وعصارة الموحدين في زمن أقفر ما بين لبنتيها من المسلمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى