السلاسل العلميةسلسلة الكواشف الجلية في الرد على شبهات الشعائرية

الشبهة الخامسة والسادسة في مبحث التكفير بالعموم : الدّرسُ الثّالثُ : الجزءُ الأوّلُ

الجزءُ الأوّلُ : الشبهة الخامسة والسادسة في مبحث التكفير بالعموم

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصَّلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين أما بعد…
فلا يزال حديثنا متواصلا في سلسلة الكواشف الجليَّة، ذكرنا جملة من الشبه المتعلقة بالتكفير بالعموم، ووقفنا عند
¤ الشبهة الخامسة وهي قولهم: أننا لا نكفر إلا من رأيناه متلبسا بالكفر ووقع في ناقض من نواقض الإسلام، أما من لم نره متلبسا بالكفر فلا سبيل إلى تكفيره.
والجواب على هذا أنَّ الشريعة قد جاءت في تكفير من لم يفعل كفرا قط، فالشرع ورد فيه تكفير من لم يفعل كفرا قط، كأطفال المشركين، كما روي عن الصعب بن جثامة رضي الله عنه قال: « مر بي النبي ﷺ بالأبواء أو بودّان وسئل عن أهل الدار يبيتون من المشركين فيصاب من نسائهم وذراريهم قال: هم منهم» رواه البخاري، وذكرنا أن هذا أصل متقرر في الشريعة، كما روي عن الأحنف بن قيس أنه قال: “إنما كان السبي والغنيمة على الكفار الذين دارهم دار كفر، والكفر لهم جامع ولذراريهم” تاريخ دمشق، فالكفر يجمع في دار الكفر أهل الكفر وكذلك الذراري، والحكم على الذرية في الدّنيا هو حكم ظاهر وليس حكم على حقيقة الأمر، وهذا الحكم الظاهر إنما وقع عليه إجماع الصحابة في سبي ذرية المرتدين وإلحاقهم بآبائهم مع أنهم لم يتلبسوا بكفر يعني بكفر الامتناع عن الزكاة ونحوها، وحكى الإجماع أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه الإيمان في سياق استدلاله أن العمل ركن في الإيمان فقال: « والمصدق لهذا جهاد أبي بكر الصديق رحمة الله عليه بالمهاجرين والأنصار، (يعني بجميع المهاجرين والأنصار) على منع العرب الزكاة كجهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الشرك سواء، لا فرق بينهما في سفك الدماء وسبي الذرية واغتنام المال، فإنما كانوا مانعين لها غير جاحدين بها» الإيمان، وهذا يفسره كذلك عمل الصحابة كما روي عن ابن سيرين قال: ” ارتد علقمة بن علاثة فبعث أبو بكر إلى امرأته وولده فقالت: إن كان علقمة كفر فإني لم أكفر أنا ولا ولدي، فذكر ذلك للشعبي فقال: «هكذا فعل بهم» يعني بأهل الردة” مصنف ابن أبي شيبة، فأبو بكر أجرى الكفر على نساء مانعي الزكاة وأولادهم، مع أنهم ليسوا ممن منع الزكاة، فليسوا من أهل الامتناع يعني القتال، وليسوا من أهل المنع يعني الأداء، فغالبا أن الزكاة إنما يدفعها أصحاب الأموال، وغالبا ما يكونوا من الرجال، فتأمّل هذا فإنه نافع إن شاء الله تعالى لك وأنزله على قومك كذلك الذين امتنعوا من الدين كله، فأقوامنا امتنعوا من الدين كله امتنعوا بهذه الجيوش التي هي من القوم نفسه يعني من الشعب، يقول إسحاق: « فلو ترك النبي ﷺ الناس ولم يبين لهم حكم الأطفال لم يعرفوا المؤمنين منهم من الكافرين لأنهم لا يدرون ما جبل كل واحد منهم عليه حين أخرج من ظهر آدم، فبين النبي ﷺ حكم الطفل في الدنيا بأن أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، وأنتم لا تعرفون ماطبع عليه في الفطرة الأولى ولكن حكم الطفل في الدنيا حكم أبويه فاعرفوا ذلك بالأبوين، فمن كان صغيرًا بين أبوين كافرين ألحق بحكمهما، ومن كان صغيرًا بين أبوين مسلمين ألحق بحكمهما، وأما إيمان ذلك وكفره مما يصير إليه، فعلم ذلك إلى الله تعالى، وبعلم ذلك فضل الخضر على موسى، إذ أطلعه الله عليه في ذلك الغلام وخصه بذلك العلم، ولقد سئل ابن عباس عن ولدان المسلمين والمشركين فقال: “حسبك بما اختصم فيه موسى والخضر”، واحتج أسحاق أيضا بحديث عائشة حين مات صبي من الأنصار بين أبوين مسلمين فقالت عائشة: طوبى له عصفور من عصافير الجنة، فرد عليها النبي ﷺ : “مه يا عائشة وما يدريك، إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلها وخلق النار وخلق لها أهلها” رواه مسلم. قال إسحاق هذا الأصل الذي يعتمد عليه أهل العلم » التمهيد، مع أننا نؤكد أن حكم الأطفال إنما هو حكم في الدنيا باعتبار الظاهر، أما في الآخرة فهذه من المسائل المشكلة جدا والتي نهى السلف عن الخوض فيها نهيا شديدًا، ونقول أنه من محاسن الاتباع الوقوف فيما وقف فيه السلف، والإمساك عما نهوا عن الخوض فيه كالقدر مثلًا، وأطفال المشركين، وما شجر بين أصحاب النبي ﷺ، كما جاءت بذلك الآثار منها حديث أبي هريرة قال: « سئل النبي ﷺ عن ذراري المشركين قال : الله أعلم بما كانوا عاملين » متفق عليه، كذلك ما روي عن أبي رجاء العطاردي قال: « سمعت ابن عباس رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لايزال أمر هذه الأمة مؤامرًا أو قال مقاربا في رواية مواتيا_ ما لم يتكلموا في الولدان والقدر »رواه الحاكم وهو على شرط الشيخين، قال أبو حاتم: « الولدان أراد به أطفال المشركين » صحيح ابن حبان، وقال يحيى بن آدم : « قد ذكرته لابن المبارك فقال: أفيسكت الإنسان على الجهل؟!، قلت فتأمر بالكلام؟! قال فسكت » التمهيد.

يعني ابن المبارك سكت في هذه المسألة، كذلك ما ذكره المروزي قال: “حدثنا عمرو بن زرارة قال: أخبرنا إسماعيل بن عون قال: « كنت عند القاسم بن محمد إذ جاءه رجل فقال ماذا كان بين قتادة وبين حفص بن عمير في أولاد المشركين؟؟ قال: وتكلم ربيعة الرأي في ذلك، فقال القاسم: إذا الله انتهى عند شيء فانتهوا وقفوا عنده، قال: فكأنما كانت نارا فأطفئت » التمهيد، هذا باعتبار مآل الأطفال في الآخرة، أما في الدنيا فسبق ذكر الإجماع على أن حكمهم من حكم آبائهم، وهم تبع لآبائهم وحكمهم حكم الكفر، وإن لم يعملوا كفرا قط، وهذا رد على من حصر مسألة التكفير في من نراه متلبسا بكفر، فنقول: أن مسألة الكفر والتكفير إنما مردها إلى الله ورسوله، فمن كفره الله ورسوله فنكفره وإن لم نرَ منه كفرًا قط كأطفال المشركين، كذلك هذه الأقوام نكفرهم بالعموم لتلبسهم بالكفر على جهة العموم وإن لم نرَ من أعيانهم يعني عينا عينا كفرًا قط.

¤ الشبهة السادسة: قالوا كيف كفرتم الأمة كلها، وهل يسوغ تكفير الأمة كلها حتى لا يبقى فيها مسلم؟؟
بداية نقول أن تكفير ظاهر الناس بالعموم لا يشمل جميع الأعيان باطنًا، هذه مسألة مهمة جدا، يعني أننا نكفر ظاهر الناس بالعموم، فتكفير عموم ظاهر الناس هذا لايشمل الأعيان في بواطنهم وفي حقيقة أمرهم، وهذا لا سبيل للوصول إليه إلا بالاستقراء التام، وهذا لا شك أنه متعذر في هذه الصورة، ولسنا نقول أنّ جميع الناس بأعيانهم كفار ظاهرا وباطنا، فهذا لا شك أنه لا يدرك للمكلفين، بل المكلف إنما يخاطب بالظاهر فيحكم على ظاهر الناس، والحكم إنما يكون بالحكم على الأقوام جملة ثم إلحاق العين بقومها، فنحن لسنا نقول أن جميع الناس بأعيانهم كفار ظاهرا وباطنا مع القطع بوجود قلة مسلمة بين هذه الأقوام، وهذا موجود حتى قيام الساعة كما أخبر بذلك النبي ﷺ في حديث ثوبان قال: قال رسول الله ﷺ : « لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك » رواه مسلم، هذا حديث فيه الإخبار أن هناك طائفة ظاهرة على الحق إلى قيام الساعة، والذي يكبر عليه تكفير الأرض كلها نقول له هوّن عليك، أما وقفت على أحاديث النبي ﷺ في غربة الدين في آخر الزمان، وارتفاع الإسلام من الأرض كحديث أنس مثلا قال: « لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله » رواه مسلم، وفي رواية « لا تقوم الساعة على أحد يقول الله الله » رواه ابن منده في الإيمان، وحديث أبي الأحوَص عن عبد الله عن النبي ﷺ قال : « لا تقوم الساعة إلا على شرارِ الناس » رواه مسلم، ونحو ذلك من الأحاديث، فظاهر هذه الأحاديث الدلالة على انقراض أهل الدّين في آخر الزمان، فأهل الدّين وأهل الخير وأهل الإيمان ينقرضون في آخر الزمان حتى لا يبقى عند قيام الساعة إلا الأشرار من الكفار والمنافقين والفاسقين وعليهم تقوم الساعة، والجمع بين حديث أنس وحديث ثوبان، نقول: أنّ كلّا منهما على ظاهره، ونؤمن بهما جميعا، لأنه لا نسخ في الأخبار، فدلت الأحاديث على عموم الكفر في آخر الزمان، وعلى ارتفاع الإسلام في آخر الزمان، ودلت كذلك على وجود الطّائفة المسلمة التي جاءت الآثار أنها في أكناف بيت المقدس، والمعنى أن الساعة تقوم في الأكثر والأغلب على شرار الناس بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: « لا تزال طائفة من أمتي منصورة لا يضرها من ناوأها حتى تقوم الساعة »، فدل هذا الخبر أن الساعة تقوم أيضا على قوم فضلاء وأنهم في صبرهم على دينهم كالقابض على الجمر، فنؤمن بهذه الأحاديث والجمع بينها أننا نقول أنّ ثم كثرة كاثرة من أهل الكفر في آخر الزمان، وثم طائفة مسلمة ثابتة على دينها وإيمانها، وهذه الطائفة إما أن تكون مستخفية بدينها أو تكون مستعلنة، فإذا كانت مستعلنة فلها حكم ما أظهرته من الإيمان، أما إذا كانت مستخفية فيجري عليها حكم الكفر تبعا لقومها.
هذا البحث أو هذه المسألة ذكرنا فيها آثارا كثيرة في أول درس من دروس سلسلة الهداية بعنوان غربة الدين في آخر الزمان، فذكرنا غربة الدين في آخر الزمان، وارتفاع الإسلام، وأنّ الناس يخرجون من دين الله عز وجل أفواجا كما دخلوا فيه أفواجًا، وذكرنا ودللنا على ذلك، حيث أن المسلم يعلم أنه في آخر الزمان قد يرجع الناس عن دين الله تبارك وتعالى ويدخلون في الأديان الوضعية أفواجًا، فليرجع من أراد الاستزادة إلى درس سلسلة الهداية.

° ° ° نقف هنا ° ° °
🖋سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.

🖋انتهى الجزء الأول من الدرس الثالث.

سراج الطريق

نحن نزاعٌ من القبائل حققوا البراءة من هذه الجاهلية النكراء … نحن الغرباء الذين تقلدوا لواء الإصلاح … بقايا الحنفاء من يُصلحون إذا فسد الناس … نحن القلة المستضعفة … القلة التي تفر بدينها … القلة السالكة المستوحشة … الحاملون لجراح أمتهم … سراج الظلم في تيه الجاهلية … الأمل في عود الضياء … عِصابة المسلمين وعصارة الموحدين في زمن أقفر ما بين لبنتيها من المسلمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى