السلاسل العلميةسلسة الهداية في بيان حد الإسلام وحقيقة الإيمان بين التأصيل والتنزيل

البراءةُ من الشّرك والأقوامِ المشركةِ: الدّرسُ السّابعُ: الجزءُ الأوّلُ

الجزءُ الأوّلُ: التّلازم ببن البراءة من الشّرك والبراءة من المشركين ١

بسمِ اللهِ الرّحمانِ الرّحيمِ، الْحَمْدُ لِلهِ الْمَحْمُودِ فِي السّراءِ والضّرّاءِ المتفرّدِ بالعزّ والجبروت وَالْكِبْرِيَاء، الَّذِي اصْطَفَى لِصَحِيح الْإِسْلَامِ فِي آخِرِ الزّمان صَفْوَة بريّته وَهَدَاهُمْ إلَى الحقّ الَّذِي تنكّب عَنْه سَائِرُ خَلِيقَتِه، وَجَعَلَهُم قوّامين بِالْقِسْط ذَابِّينَ عَلَى شَرِيعَتِهِ وسنّته، نَحْمَدُه حقَّ الْحَمْدِ وأوفاهُ، وَنَسْأَلُه التّوفيقَ لِمَا يحبّه وَيَرْضَاه، ونَرغبُ إلَيْه الْمَزِيدَ مِن الْفَضْلِ وَأَعْلَاه، والصّلاةُ والسّلامُ عَلَى سيّدنا مُحَمَّدٍ أَفْضَل النّبيّين وَخِيرَة الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ والتّابعين لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدّين أمّا بَعْد…

•فلا يزال حديثنا في سلسلة الهداية في بيان حدّ الإسلام وحقيقة الإيمان، وقفنا عند الركن الثّالث من أركان حدّ الإسلام وهو البراءة من الشرك والأقوام المشركة سنعرض إليه بحول الله وقوّته بالشّرح والبيان
•يقول ربّنا تبارك وتعالى في محكم التّنزيل فيما قصّه عن الخليل إبراهيم: {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)} الأنعام، بهذه الكلمات واجه إبراهيم الحنيف قومه بالدعوة إلى التوحيد: فأعلن فيهم البراءة من الشّرك بقوله: {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}، وجهر بالحنيفيّة وإفراد الله بالعبوديّة والتّوجّه للّذي فطر السّماوات والأرض بقوله: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا} وصدع فيهم بالبراءة منهم بقوله: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}”قال الطّبريّ: “أي: لست ممّن يدين دينكم، ويتّبع ملّتكم أيُّها المشركون” تفسير الطّبريّ، أي: لستُ منكم ولا أنتم مني، لكم دينكم وليَّ دين، أنتم على الشرك والوثنيّة وأنا على الحنيفيّة، أنتم المشركون وأنا ومن اتبعنيَ المسلمون.
•إنّ القضيّة عند أصحاب الفطر السّليمة جدُّ واضحة بقدر صفاء الفطرة وانتفاء الغبش … حيث أنّه لا يتمّ الدّخول في دين الإسلام حتى تُتْرَكَ مِلَّةُ الشرك بمفاصلة الآلهة الباطلة وعابديها والبراءة منهم وممّا يعبدون من دون الله، والشّرك عرّفه النبي صلى الله عليه وسلم بتعريف جامع كما روي عن عبد الله قال: “سألت النبي صلى الله عليه وسلم أيُّ الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله نِدًّا وهو خَلَقَكَ» متفق عليه، كذلك روي عن أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ: “كُنْتُ جَالِسًا، عِنْدَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، فَسَأَلَهُ رَجُلٌ، عَنِ الشِّرْكِ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ.” تفسير ابن أبي حاتم.
•فكلّ من اتّخذ مع الله تبارك وتعالى ندّا أو آلهة في الحكم والعبادة والتّلقّي عنها في الشّرائع ونحو ذلك وفي الطّاعة والاتّباع فقد أشرك بالله تبارك وتعالى، حيث انه جعل مع الله ندا وهو خالقه ورازقه، يقول السّمعاني: “الإشراك هو الجمع بين الشيئين في معنى، فالإشراك بالله تعالى هو أن يجمع مع الله غير الله فيما لايجوز إلا لله” تفسير السّمعاني، أي: في خصائصه جل وعلا كالحكم والتّشريع والتّلقي والاتّباع والطّاعة والعبادة.
•نقول أن البراءة من الشرك والبراءة من المشركين متلازمتان، حيث أن البراءة من الشرك هي ترك الشّرك واعتقاد عدم أحقّيّة الآلهة الباطلة للعبادة وينقضهاالتّلبّس بالشرك، فكلّ من تلبس بالشرك (قال او فَعَلَ الشّرك أو اعتقد شركا فهو مشرك بالله تبارك وتعالى)، أما البراءة من المشركين فهي مفارقتهم في الدّين وذلك يكون باعتقاد أنهم على دين باطل وانك على الدين الحقّ، وهذه ينقضها ويهدمها أسلمة المشركين واعتقاد أنهم على دين صحيح وأنهم على الإسلام وذلك بعذرهم بالجهل أو بالتقليد أو بالتأويل، مامعني التلازم بينهما؟ معناه أنه لايصح ترك الشرك إلا باعتقاد أن أهله على دين باطل وأنهم على غير ملة إبراهيم.
وقد حكى أبو الحسين الملطي الإجماع على أن الجهل مناط مكفر وليس عذر مبرر كما يقوله الجهمية حيث قال أبو الحسين: “وَمعنى ذَلِك أَن معتزلة بَغْدَاد وَالْبَصْرَة وَجَمِيع أهل الْقبْلَة لَا اخْتِلَاف بَينهم أَن من شكّ فِي كَافِر فَهُوَ كَافِر لِأَن الشاك فِي الْكفْر لَا إِيمَان لَهُ، لِأَنَّهُ لَا يعرف كفرا من إِيمَان فَلَيْسَ بَين الْأمة كلّهَا الْمُعْتَزلَة وَمن دونهم خلاف أَن الشاك فِي الْكَافِر كَافِر” كتاب التنبيه والرد على أهل الأهواء. قال أبو سليمان: “سألت أبا سلمة بن شبيب عن علم الحلواني فقال: يرمى في الحش، ثم قال أبو سلمة: من لم يشهد بكفر الكافر فهو كافر” تاريخ بغداد

  • نقول بأنّ البراءة من الشرك لاتنفك من البراءة من المشركين لأنّ الله عز وجل جعل الميثاق والفطرة حجة على الإشراك به كما في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ ۖ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)} الأعراف، بقول ابن أبي زمنين في قوله تعالى: “{أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ ۖ } اي: وجدناهم على ملّةٍ فاتّبعناهم” تفسير ابن أبي زمنين. فالشرك بالله تبارك وتعالى ملّة وديانة .
    في آية الأعراف المولى تبارك وتعالى قطع العذر عن المشركين بالغفلة في قوله: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ}، وقطع عذرهم كذلك بالتقليد ( أي تقليد الآباء والعلماء والسادة والكبراء) بقوله: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ}، ورد كذلك في السّنّة من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: “يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا: لَوْ كَانَتْ لَكَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، أَكُنْتَ مُفْتَدِيًا بِهَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ هَذَا وَأَنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ: أَنْ لَا تُشْرِكَ ــ أَحْسِبُهُ قَالَ: وَلَا أُدْخِلَكَ النَّارَ ــ فَأَبَيْتَ إِلَّا الشِّرْك.” رواه مسلم، حديث أنس فيه دلالة على حجة الميثاق أخذت على الشرك بالله تبارك وتعالى
    • نقول أنّه لا يُعذر المشرك بحال لأنّ الحجة قائمةٌ عليه في كل حال، فلا يقع في الشّرع وُجود شرك اختيارا دون مشرك، فحجة الميثاق والفطرة ملازمة للمكلّف وقائمة عليه، وليس في دين الله مشرك مسلم إلا في عقول أحفاد الجهم، لأن الحنيف غير المشركِ، فالحنيف هو المائل عن الشرك، والمشرك هو المتلبس بالشرك، قال تعالى:{حنفاء لله غير مشركين به} [الحج 31]، قال أبو بكر الصديق: «كان الناس يحجون وهم مشركون فكانوا يسمونهم حنفاء الحجاج، فنزلت{حنفاء لله غير مشركين به}» أخرجه ابن أبي حاتم.
    •وكل من تلبس بالشرك مختارا يُسمى مشركا في كل أحواله عالما كان أو جاهلا، مُعاندا كان أو مُعرضا، متأولا كان أو مُلَبَّسا عليه يحسب أنّه من المهتدين، كان قبل الرسالة أو بعدها، كان حديث عهدٍ بإسلام أو يعيش في نائية، فكل هذه الصور من وقع فيها ومن وقع في الشرك يسمى مشركا، لأنّ الحجة قائمة عليه بالفطرة والميثاق وهي ملازمة له لا تنفكّ عنه في جميع هذه الأحول قد قامت عليه الحجّة، قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)} الشمس، روي عن ابن عباس في قوله: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} يقول: بيَّن الخيرَ والشرَّ ” وقال :” علَّمها الطاعة والمعصية” تفسير الطّبري.
    • والبراءة من الشّرك تقتضي حتما البراءة من المشركين يعني من حقق البراءة من الشرك فعلا أو قولا أو عقدا فيلزمه حتما أن يحقق البراءة من المشركين، لأنه لايتصور شرعا وجود شرك دون مشرك. والأدلة الواردة في البراءة من الشرك هي ذاتها الأدلة الواردة في البراءة من المشركين كقوله تعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)} الزخرف، فهي البراءة من العابدين، وبراءة مما يعبدون من شركهم وأعمالهم، وهذه البراءة التي وردت في سورة الزخرف ورد تفصيلها في آية الممتحنة كم في قوله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ} فقدّم البراءة من العابدين على البراءة مما يعبدون لأنها تتضمن البراءة مما يعبدون فإذا تبرأ من العابد فقد تبرأ منه ومن فعله كذلك، فهي براءة من العامل وعمله، والعبد وعبادته، إذا فمفاصلة الشرك كله لاتتم إلا بمفاصلة أهله واعتقاد أنهم على دين باطل،فمن حقق هذه المفاصلة والبراءة تحقق بقوله: {وما أنا من المشركين}.
    •وصاحب الفطرة السليمة لايستطيع أن يتصور كيف يكون المرء على الحق وهو يرى الناس على الباطل ويعتقد أنهم على الحق يقول تعالى: {فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ ۖ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ۖ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ (32)} يونس، وكيف يكون المرء مسلما وهو يرى المشركين على دينه ؟ فهذا قطعا لايعرف الإسلام من الشرك، وكيف لرجل ابتداء يجهل حقيقة الإسلام يكون معتنقا له، وكيف يُعَدُّ من أهله وهو لا يعرف مدلوله ابتداءً وهو جاهل به، لأن الاعتقاد فرع عن المعرفة فإذا جهل حقيقة عقيدةٍ ما كيف يكون من المعتنقين لها ويُعَدُّ من أهلها؟ إنها واضحة عند أصحاب الفطر السليمة، أما أكثر الناس في هذا الزمان فطرهم انتكست، وبهذا الوضوح كذلك تقررت في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم أن الإسلام لا ينعقد إلا بالبراءة من الشرك والبراءة من المشركين كما سيأتي بيانه ــــــ بحول الله وقوته ــــــ .

🖋 نقف هنا سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
🖋 يتبع بالجزء الثاني بإذن الله.

سراج الطريق

نحن نزاعٌ من القبائل حققوا البراءة من هذه الجاهلية النكراء … نحن الغرباء الذين تقلدوا لواء الإصلاح … بقايا الحنفاء من يُصلحون إذا فسد الناس … نحن القلة المستضعفة … القلة التي تفر بدينها … القلة السالكة المستوحشة … الحاملون لجراح أمتهم … سراج الظلم في تيه الجاهلية … الأمل في عود الضياء … عِصابة المسلمين وعصارة الموحدين في زمن أقفر ما بين لبنتيها من المسلمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى