الصوتيات والمواعظ

من يحمل الهم … من يسد الثغر ؟

صوتية بعنوان : من يحمل الهم ... من يسد الثغر ؟

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي أنار لنا السبيل بعد حياة القلوب، فتميَّز لنا سويَّ الصِّراط بعد التيه في مسالك الدروب، وأيقظ الهمم فجالت عاليا لا تَنثني عن المراد ولا تحيد عن تحقيق الفقد المطلوب، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الذين أجابوا داعي البشير النذير، ورسموا بدمائهم أثر المسير، وسلكوا بنور النبوة النهج المنير، فيا سعد من اقتفى آثارهم وسار على قويم سبيلهم، ليُخرج الناس من رِبقَةِ الكفر إلى سعة الإسلام بقلم التنوير وسيف التحرير، أما بعد :     فهل قد ذهب  الرجال، ولم يبق إلا ذكورا في أثواب ضيقة تمشي في شوارعهم منكسةَ الهام … ويكأنه قد ذهب الذين لا ينامون على الضيم … الذين يحملون همَّ الدين ويحملون الحِمل الثقيل …. عندما ترى حال المسلمين في هذا الزمان تصاب بخيبة أمل لما تراه من تشرذم وتنافر وضعف همة و سلوكِ مسار مسدود من جميع الجبهات … ترى الضياع في وجوههم كأنهم أضاعوا بوصلة الطريق … ترى أجسادا قد فقدت روح الحركة لهذا الدين فهم موات في دنيا الشر والظلام البهيم … ترى من تحركه دراهم معدودات فيعمل لها عمل الرقيق والعبيد  ولا يبذل أي جهد في سبيل نصرة هذا الدين … ترى من كف يديه بعد أن لُدغ من جحر غادر، فصار حملا وديعا مع المشرك والكافر، ترى من يحسب كل صيحة عليه جبان رعديد، قد استلذ حياة الذل والعبيد … ترى من لا يحسن إلا الهدم والتفريق ولا يصدر منه إلا التخذيل والتثبيط ولا يعرف للبناء سبيل.لا تَجْزَعَنَّ فَلَيْس يَبقَى دائِمًا * ضَيْمٌ ودَوْراتُ الزَّمانِ دَليلُ أأُخَيَّ صَبْرًا إنَّ سُنَّةَ أحْمَدٍ * مِثْلُ الْجِبالِ فَحَمْلُهُنَّ ثَقِيلُ لا تَرْكَنَنَّ إلى الْخَذُولِ وقَوْلِهِ * فَلَرُبَّما نَشَرَ السِّقامَ عَلِيلُ ما قامَ بالشرعِ الحنيفِ مُخَذِّلٌ * أوْ أبْصَرَ النورَ العَظيمَ كَلِيلُ لا تَحْزَنَنَّ إنِ ابْتُلِيتَ بِعاذِلٍ * إنْ راحَ بالتُّهَمِ الْجزافِ يَكِيلُ واصْبِرْ على كَيْدِ الْحَسُودِ فإنَّهُ * ما راعَ فُرْسان الْخُيولِ صهيلُ لقائل أن يقول لماذا المسلمون قد ركنوا ووهنوا وضعفوا واندثروا فلا تجد لهم أثرا للطريق !! أثرٌ يسير السالك على إثره فيهتدي ويستنير، يقول الله عزوجل : {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥)} آل عمران، وانظر إلى أحوالهم، إلى عباداتهم، إلى ولائهم وبرائهم، إلى أخلاقهم ومعاملاتهم، إلى بذلهم وسعيهم، تجدهم في كل ذلك في تقصير خطير شديد إلا من رحم الله تبارك وتعالى … فصار الإسلامُ كلمةً يرددها البعض فارغةً عن ما تحمله من حقوق وواجبات وأخلاق ومبادئ وقيم، فلا يحملون من الإسلام إلا اسمه … لا بذل ولا عطاء ولا دعوة ولا طلب علم ولا حركة لنصرة هذا الدين والسعي في إقامته والتمكين له على قدر الجهد والطاقة … حتى لا تجد عند بعضهم روح التكافل والتضامن التي قد تجدها بين أصناف المشركين … تجد بعضهم قد أسرف على نفسه في الكماليات وأخته في المخيمات تبيت وعلى بطنها الحجارةُ من الجوع، وهو يرمي بواقي المناسفِ للقطط والكلاب والله المستعان.     إن المؤمن بمبدأ وقضية ومنهج حياة لا يمكنه العيش بهذا المبدأ عاملا بمقتضاه تحت ظل نظامٍ حاكم وسلطان قائمٍ قد أُسس على مبادئ وغايات تُناقض هذا المبدأ بالكلية …. إن هذه القناعة تُحتِّم عليه استفراغ الجهد في إيجاد الحلول الشرعية لإقامة الكيان … الكيان الذي يتيح له الحياة وفق المنهج المستمد من كتاب الله عزوجل وسنة رسول الله ﷺ.     إن المسلم  على يقين أنه لن يستطيع أن يزاول إسلامه إلا في صورة الجماعة المسلمة التي يُهيمن عليها كتاب الله، ولن يملك ذلك وهو فرد ضائع ورقم تائه في هذه المجتمعات الجاهلية …. وهو ذات اليقين الذي يدفعه إلى الحركة لبناء صرح الجماعة المسلمة الذي تتحقق فيها الحياة ويقوم عليها الدين وتحصل بها المفاصلة للجاهلية واجتناب الطاغوت والنجاة في الدنيا والآخرة … إنها خطوات ثقيلة في مرحلة حرجة من تاريخ هذه الأمة، حيث أن الطليعة الحاملة لهذه العقيدة بين أسير وطريد وشريد بعد أفول الجماعات القتالية التي قتلت الآمال المعلَّقة بها من طرف الغافلين الذين كانوا ينتظرون منها إيجاد الكيان الذي يأوي إليه هؤلاء الضعفاء ، ولكنها كانت تسير في طريقِ مَتاهة مسدود فَجَرَت عليها السُّنن.       إن الحركة لا مناص منها ولا يسعنا الوقوف على حافة الطريق كهيئة المتفرج أو المستسلم لواقع لا يمكن مُدافعَتُه فهذا إذنٌ بفساد الأرض كما قال تعالى : ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (٢٥١) ﴾[البقرة].

إن المسلم لا يستطيع أن يعيش في مثل هذا الواقع بدون حركة وهو يرى أصحاب الدعوات الباطلة على اختلاف مشاربها النتنة يبذلون لدعواهم المتهافتة كل غالي ونفيس، ويقدمون لها القربان والدماء ويقضون في سبيلها الأعمار الطويلة في السجون، ولا ينحنون لخصومهم ولا يرجعون عن مبادئ باطلة بل يُكْملون المسير إلى آخر الأنفاس، يقول عمرو بن عثمان المكي:” لقد وبَّخ الله التاركين للصبر عن دينهم بما أخبرنا عن الكفار  {وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَىٰ آلِهَتِكُمْ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (٦) }[ص]، فهذا توبيخ لمن ترك الصبر على دينه” انتهى كلامه.

    إنه لا مُدرَّجات للمتفرجين فالتيَّار المعاكس الجارف إنما يجرف بسيله النجس العرم من لا يُدافع ويُناجز بقوة تقاوم حركة التيَّار، فلا مناص من بذل الجهد لضمان البقاء، وإلا فهو الانزلاق الذي يعقبه الانصهار في مثل هذه المجتمعات … إنه الخسران المبين والتيه الطويل الذي قد لا يُرجى معه العودة للجادة والصواب … إنه الضلال البعيد. 
    إنه لا مكان في هذه الطريق إلا لأصحاب الحركة، بل إذا رأيت رجُلاً لا يسعى وراء غايتِه ولا يعيش لتحصيل مبدأه فاعلم أنه كاذب في نسبته، وأن دعواه إنما هي مُجرَّد دعوى مجردة عن الحقائق ولمَّا يدخل الإيمان قلبه بعد
.
    إن هذا الدين العظيم ليس مجرد معاني مُتقوقعة في الأذهان، لا وجود لها في واقع الناس وحياتهم … ليست هي حقائق يتدارسونها للتَّرف العلمي والمكاثرة بالمعرفة والجدال على مواقع التواصل، وليست هي رهبانية في صومعة أو صوفية في زاوية، بل هو منهج حركي عملي يواجه واقع البشر المصادم لما أنزل الله تبارك وتعالى ويعمل على تقويمه وتحرير النفس من ربقة العبودية للبشر، ومن ثّمَّ تحرير العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد … إنه دين أنزله الله ليُعمل به في الأرض لا ليبقى حبيس العقول ودور العبادة، أُنزل لخلاص الناس من الجاهلية وظلماتها إلى نور الإسلام كما قال الله تعالى: ﴿ الر ۚ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١)}[إبراهيم]، إنه العبءُ الذي حمله الصحابة بعد وفاة النبي ﷺ  كربعي بن عامر وحذيفة بن محصن والمغيرة بن شعبة حينما سألهم رستم ملك الفرس في القادسية واحدا بعد واحد في ثلاثة أيام، فقال ما الذي جاء بكم فقالوا : “ابتعثنا الله لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسل رسوله بدينه إلى خلقه فمن قبل منا قبلنا منه ورجعنا عنه وتركناه وأرضه، ومن أبى قاتلناه حتى نفضي إلى الجنة أو الظفر ” … إن هذا الأثر يرسم منهاج الصحابة الذي سادو به الأرض في تحرير الناس من ربقة العبودية للبشر إلى عبادة إله البشر فتجد فيه الوسيلة والغاية … إنهم الصحابة القائلين “ابتعثنا الله” إنهم خلائف الله عزوجل في أرضه، الصحابة الذين ربَّاهم النبي ﷺ عبر الوقائع والأحداث عبر السنين المتوالية والمحن المتتالية، الصحابة الذين يعرفون جيدا الطريق وآفاته والمسير وعقباته لذلك لما استدل بعض الناس على من شق صفَ الكفار منغمساً بقوله تعالى: { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } [البقرة] يقول أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله ﷺ : “إنها نزلت فينا معشر الأنصار لما أعزَّ الله دينه ونصر رسوله، قلنا: لو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية :{ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ }، وعلى هذا، معنى الآية: لا تتركوا الجهاد فتهلكوا”… فالتهلكة في منظور المنهج  الربَّاني هي الجلوس عن  الحركة بعد ظهور الإسلام وفتح مكة وانتشار الأمن في جزيرة العرب، بعد الأمن من الخوف والعزِّ بعد الذلِّ … فكيف بمن جنح إلى السكون وركن إلى الرقود عند الذلَّة والخوف والضياع في هذه الجاهلية الجهلاء ؟
     إن من المؤسف أن تجد حال بعض من ينتسبون إلى هذه الدعوة على التوصيف الذي سبق معنا في أول الكلمة … يقول ابن المبارك: «من أعظم المصائب للرجل أن يعلم من نفسه تقصيرًا ثم لا يبالي، ولا يحزن عليه»
   وليعلم المسلم أن  سنن الله عز وجل في هذه الطريق أن يستبدل اللهُ من يَخذُلُ هذه الدعوة، يستبدلهم بقوم يحبهم ويحبونه، يبذلون لهذا الدين الغالي والنفيس لا ينامون على الضيم، ويحملون الحمل الثقل يحفظهم الله بحفظه، ويسيرون بأمره إلى النصر والتمكين ولو طالت بهم السنين … إنه دين الله عز وجل والله مظهر دينه ومعلي كلمته ولو كره الكافرون … ولكن الأمر الذي يحز في النفوس أن تجد للباطل أعوانا وأنصارا ودعوة قائمة فتُحمل ويدعى الناس إليها، ولا تجد للحق إلا من يزيد الخرق على الراقع، ويرهق العامل خذلانا وتثبيطا والله المستعان.

إن الأزمة شديدة والتحدي صعب وليس هو بمستحيل والبدايات هي أصعب المراحل تحتاج إلى رجال صادقين يقومون بأعباء أمة مسلوبة الهوية مطموسة الفطرة حتى تقوم للمسلمين الصولة والجولة.
يقول الفُضيل بن عياض: ”لا تستوحش طرق الهدى لقلة السالكين، ولا تغتر بطرق الباطل لكثرة الهالكين”، و لا شك أن الوحشة هو شكل من أشكال التألم والتوجع الذي ينتاب الأخيار من جراء القلة والضعف وتسلط الظلمة، واستهزاء المنافقين، يقول الله تبارك وتعالى {فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون}

لا تَجزعنَّ مِن العدُوِّ وحِزْبِهِ * إنَّ العَدُوَّ بِسَعْيِهِ مَخْذولُ
وتَعَزَّ بالصبْرِ الْجميلِ تَمَسُّكًا * فلربَّما لَيْلُ العَناءِ يَطولُ
قد أجمعَ الكفار كلَّ مكِيدةٍ * طَبْعُ اللئامِ إلى الظَّلامِ يَمِيلُ
قَدْ أجْمعُوا حَرْبًا بكلِّ وسيلةٍ * غَدْرًا وتشويهُ الكِرامِ سَبيلُ
ولقدْ تَسَمَّوا بالدِّيانَةِ والتُّقَى * هَيْهاتَ ما بَلَغَ السَّخاءَ بَخِيلُ
رَكِبُوا الهَوى حتّى تشَتَّتَ سَعْيُهُمْ * بِدَعٌ عَنِ الْهَدي القَويم تَحُولُ
لاتَعْجَبَنَّ إنِ ابْتُلِيتَ بِمِثْلِهِمْ * أوْ يَعتريكَ من الزمان ذهُولُ
فلَربَّما سادَ الأمورَ رُوَيْبِضٌ * ولَرَبَّما سادَ الكرامَ ذليلُ
ولَربّما افتخر الجبانُ بطعنِهِ * ظهْرَ الشُّجاعِ وسَيْفُهُ مسْلُولُ
اصْبِرْ على ظُلْمِ الظَّلْومِ وحِقْدِهِ * فَلِشَمْسِ أيَّامِ الطُّغاةِ أُفُولُ

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

سراج الطريق

نحن نزاعٌ من القبائل حققوا البراءة من هذه الجاهلية النكراء … نحن الغرباء الذين تقلدوا لواء الإصلاح … بقايا الحنفاء من يُصلحون إذا فسد الناس … نحن القلة المستضعفة … القلة التي تفر بدينها … القلة السالكة المستوحشة … الحاملون لجراح أمتهم … سراج الظلم في تيه الجاهلية … الأمل في عود الضياء … عِصابة المسلمين وعصارة الموحدين في زمن أقفر ما بين لبنتيها من المسلمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى