الفتاوىعقد الزواجفتاوى الأسرة

ما حكم من طلَّق زوجته ثلاث طلقات في مجلس واحد؟

السؤال : ما حكم من طلَّق زوجته ثلاث طلقات في مجلس واحد؟

الجواب : ومن صوره كأن يقول: ” أنت طالق ثلاثا ” أو يقول: ” أنت طالق، أنت طالق ، أنت طالق “، يريد التكرار لا التأكيد، أو يقول لها في مجلس يوم السبت: “أنت طالق” ولم يراجعها فلما جاء يوم الأحد قال لها “أنت طالق” أي طلقة ثانية فلما جاء يوم الاثنين قال: “أنت طالق” أي ثالثة وليس الثانية بعد رجعة ولا عقد، وكذلك الثالثة.

ابتداءً نقول أنه لا يجوز للمكلف إيقاع الطلاق على الصورة التي ورد بها السؤال وهو من طلاق البدعة، قال الكاساني: وأما حكم طلاق البدعة فهو أنه واقع عند عامة العلماء، وقد ذكر هذا بعد سياقه للألفاظ التي يقع بها طلاق البدعة، وذكر منها: الثلاث بلفظ واحد” بدائع الصنائع، ويدل على الحرمة قوله تعالى: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أي: في أطهار عدتهن وهو الثلاث في ثلاثة أطهار، وإيقاع الثلاث في مجلس واحد مخالف لكتـاب اللـه كما روي عن مَحْمُودَ بْنَ لَبِيدٍ قَالَ: أُخْبِرَ رَسُولُ اللهِﷺ عَنْ رَجُلٍ، طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعًا، فَقَامَ غَضْبَانًا، ثُمَّ قَالَ: «أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللهِ، وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ» حَتَّى قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَلَا أَقْتُلُهُ؟»، رواه النسائي، والحديث صحيح وما قيل بأنه مرسل فهو مردود بأنه مرسل صحابي، ومراسيل الصحابة لها حكم الوصل، ومحمود بن لبيد المذكور جل روايته عن الصحابة، كما قال ابن حجر في [التقريب] وغيره، والإعلال الثاني: بأن رواية مخرمة عن أبيه وجادة من كتابه فيه أن مسلما أخرج في صحيحه عدة أحاديث مــن رواية مخرمة عن أبيه، والمسلمون مجمعون على قبول أحاديث مسلم إلا بموجب صريح يقتضي الرد، والحق أن الحديث ثابت إلا أن الاستدلال به يرده)، وبوب له النسائي: “الثَّلَاثُ المَجْمُوعَةُ وَمَا فِيهِ مِنَ التَّعْلِيظِ” واللعب بكتـاب اللـه هـو تـرك العمل به، فدل أن موقع الثلاث جملة مخالف للعمل بما في الكتاب، واستدل الجمهور بحديث محمود بن لبيد على وقوعها، لأنه طلق ثلاثا يظن لزومها فلو كانت غير لازمة لبين النبي صلى الله عليه وسلم أنها غير لازمة لأن البيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة، ومن فتاوى الصحابة على حرمة الثلاث في مجلس واحد ما روي عَنْ وَاقِعِ بْنِ سَحْبَانَ قَالَ: “سَأَلَ رَجُلٌ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ، عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ فَقَالَ: “أَثِمَتَ بِرَبِّكَ وَحَرَّمْت عَلَيْكَ امْرَأَتَكَ، فَكَأَنَّ الرَّجُلَ نَالَ مِنْهُ عِنْدَ الأَشْعَرِيِّ، فَقَالَ: أَكْثَرَ اللَّهُ فِينَا مِثْلَ أَبِي نُجَيْدٍ” الكنى والأسماء للدولابي, وعَنْ مَالِكِ بْنِ الحَارِثِ قَالَ: “جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنَّ عَمِّي طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا”، فَقَالَ: «إِنَّ عَمَّكَ عَصَى الله فَأَتَمَّهُ اللهُ وَأَطَاعَ الشَّيْطَانَ فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا» . فَقُلْتُ: كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ يُحِلُّهَا لَهُ؟ فَقَالَ «مَنْ يُخَادِعِ اللَّهَ يُخَادِعُهُ» شرح معاني الآثار.
ثم نقول أن الرجل إذا طلق زوجته ثلاثا بلفظ واحد وقعت ثلاثا دخل بها أو لم يدخل، فطلاق الثلاث يقع ثلاثًا وتبين به المرأة بينونةً كُبرى ولا تحل لزوجها الذي طلقها هذا الطلاق حتى تنكح زوجا غيره، وهو مذهب جمهور الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين كمالك وأحمد والشافعي، قال ابن الهمام وذهب جمهور الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم من أئمة المسلمين إلى أنه يقع ثلاثا” فتح القدير، وقال ابن قدامة: “وإن طلق ثلاثا بكلمة واحدة وقع الثلاث وحرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره، ولا فـرق بـيـن قبـل الدخول وبعده، روي ذلك عن ابن عباس، وأبي هريرة وابن عمر، وعبد الله بن عمرو، وابن مسعود، وأنس، وهو قول أكثر أهل العلم من التابعين، والأئمة بعدهم” المغني.

ويدل عليه من الكتاب والسنة ما يلي:
ترجم البخاري في صحيحه باب من أجاز الطلاق الثلاث لقوله تعالى: ﴿الطَّلَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحُ بِإِحْسَنِ﴾ [البقرة ٢٢٩]، وهذا إشــــارة منــــه إلـــى أن هــــذا التعديد إنما هو فسحة لهم فمن ضيق على نفسه لزمه، ولم يفرق النص بين إيقاعهما في طهر واحد أو في أطهار، فوجب الحكم بإيقاع الجميع على أي وجه أوقعه المكلـف مـن مسنون أو غير مسنون ومباح أو محظور.
وقوله تعـالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾ [الطلاق۱] ، ووجه الدلالة أن المطلّق قد يحدث لـــه نــدم فـــلا يمكنه تداركه لوقوع البينونة، فلو كانت الثلاث لا تقع لم يقع طلاقه إلا رجعـيـا فلا يندم لإمكان الرجعة، ومما يؤيد هذا الاستدلال القرآني ما أخرجه أبو داود بسند صحيح عـن طريق مجاهد قال: “كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: “إنه طلق امرأته ثلاثا، فسكت حتى ظننت أنه سيردها إليه، فقال: ينطق أحدكم فيركب الأحمـوقـة ثـم يـقـول يــا ابن عباس الله قال: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وإنك لم تتق، فلا أجد لك مخرجا، عصيت ربك، وبانت منك امرأتك»، وهذا تفسير من ابن عباس للآيـة بأنهـا يدخل في معناها: ومن يتق ولم يجمع الطلاق في لفظة واحدة يجعل له مخرجا بالرجعة، ومن لم يتقه في ذلك بأن جمع الطلقات في لفظ واحد لم يجعل له مخرجا لوقوع البينونة بها مجتمعة.

ومن السنة: ما أخرجه البخاري تحت بَاب مَنْ أَجَازَ طَلاقَ الثَّلَاثِ بسنده عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلاثًا ، فَتَزَوَّجَتْ فَطَلَّقَ ، فَسُئِلَ النَّبِيُّ : أَنْحِلُّ لِلْأَوَّلِ؟ قَالَ: «لا حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَهَا كَمَا ذَاقَ الأَوَّلُ»رواه البخاري، هو ظاهر في كونها مجموعة فلم ينكر وقوعها، إذ لو لم تقع لم يتوقف رجوعها إلى الأول على ذوق الثاني عسيلتها، وعنْ نَافِعِ بْنِ عُجَيْرِ بْنِ عَبْدِ يَزِيدَ بْنِ رُكَانَةَ، أَنَّ رُكَانَةَ بْنَ عَبْدِ يَزِيدَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ سُهَيْمَةَ البَتَّةَ، فَأَخْبَرَ النَّبِيَّﷺ بِذَلِكَ، وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ إِلَّا وَاحِدَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَاللَّهِ مَا أَرَدْتَ إِلَّا وَاحِدَةً؟»، فَقَالَ رُكَانَةُ: وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ إِلَّا وَاحِدَةً، فَرَدَّهَا إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ، فَطَلَّقَهَا الثَّانِيَةَ فِي زَمَانِ عُمَرَ، وَالثَّالِثَةَ فِي زَمَانِ عُثْمَانَ»، ووجه الدلالة: أنـه لـو لم تقع الثلاث لم يكن للاستحلاف معنى.
ومن فتاوى الصحابة غير ما سبق ذكره ما روي عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ الأَنْصَارِيِّ، أَنَّهُ كَانَ جَالِساً مَعَ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَعَاصِمِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: فَجَاءَهُمَا مُحَمَّدُ بْنُ إِيَاسِ بْنِ الْبُكَيْرٍ. فَقَالَ: إِنَّ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلاثاً، قَبْلَ أَنْ يَدْخُل بها.
فَمَاذَا تَرَيَانِ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ مَا لَنَا فِيهِ قَوْلٌ فَاذْهَبْ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ. فَإِنِّي تَرَكْتُهُمَا عِنْدَ عَائِشَةَ. فَسَلْهُمَا. ثُمَّ اثْتِنَا، فَأَخْبِرْنَا. فَذَهَبَ فَسَأَلَهُمَا فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: أَفْتِهِ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، فَقَدْ جَاءَتْكَ مُعْضِلَةٌ.
فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: الوَاحِدَةُ تُبِينُهَا، وَالثَّلاَثَةُ تُحَرِّمُهَا، حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، مِثْلَ ذلِكَ قَالَ مَالِكٌ: وَعَلَى ذلِكَ، الأَمْرُ عِنْدَنَا».

  • ومما نقل من إجماع الصحابة:
    قال الباجي: “من أوقع الطلاق الثلاث بلفظة واحدة لزمه ما أوقعه من الثلاث، وبه قال جماعة الفقهاء، وحكى القاضي أبو محمد في إشرافه عن بعض المبتدعة يلزمه طلقة واحدة، وعن بعض أهل الظاهر لا يلزمه شيء، وإنما يروى هذا عن الحجاج بن أرطأة ومحمد بن إسحاق.
    والدليل على ما نقوله: إجماع الصحابة لأن هذا مروي عن ابن عمر وعمران بن حصين، وعبد الله بن مسعود، وابن عباس، وأبي هريرة، وعائشة رضي الله تعالى عنهم، ولا مخالف لهم، وما روي عن ابن عباس في ذلك من رواية طاوس، قال فيه بعض المحدثين: هو وهم، وقد روى ابن طاوس عن أبيه وكذا عن ابن وهب خلاف ذلك، وإنما وقع الوهم في التأويل”.
    وقال ابن رجب في بيان مشكل الأحاديث الواردة في أن الطلاق الثلاث واحدة : “اعلم أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا من أئمة السلف المعتد بقولهم في الفتاوى في الحلال والحرام – شيء صريح في أن الطلاق الثلاث بعد الدخول يحسب واحدة إذا سيق بلفظ واحد”.

ومن فتاوى الأئمة:
قال سحنون بن سعيد التنوخي: قلت: أرأيت إن طلقها ثلاثا وهي حامل في مجلس واحد أو مجالس شتى، أيلزمه ذلك أم لا؟ قال: قال مالك: يلزمه ذلك”
وقال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن حديث ابن عباس: « كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وعمر واحدة» بأي شيء تدفعه؟ فقال: برواية الناس عن ابن عباس: أنها ثلاث، وقدمه في الفروع وجزم به في المغني، وأكثرهم لم يحك غيره”
     وفي توجيه حديث عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَأَبِي بَكْرٍ، وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إِنَّ النَّاسَ قَدِ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ قَدْ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ، فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ، فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ».

فقد قال الشافعي: بعد سياقه لحديث أبي الصهباء: وأثر ابن عباس في الذي طلق امرأته ألفا وأفتاه بوقوع الثلاث، والذي طلق مائة وقد سبقت، قال بعد ذلك: فإن كان معنى قول ابن عباس أن الثلاث كانت تحسب على عهد رسول الله ﷺ واحدة يعني: أنه بأمر النبي ﷺ فالذي يشبه -والله أعلم- أن يكون ابن عباس قد علم أن كان شيئا فنسخ.
فإن قيل: فما دل على ما وصفت؟
قيل: لا يشبه أن يكون يروى عن رسول الله ﷺ شيئا ثم يخالفه بشيء لم يعلمه كان من النبي فيه خلافه.
فإن قيل: فلعل هذا شيء روي عن عمر فقال فيه ابن عباس بقول عمر.
قيل: قد علمنا أن ابن عباس يخالف عمر في نكاح المتعة، وبيع الدينار بالدينارين، وفي بيع أمهات الأولاد وغيره، فكيف يوافقه في شيء يروى عن النبي ﷺ فيه خلافه؟!
فإن قيل: فلم لم يذكره؟
قيل: فقد يسأل الرجل عن الشيء فيجيب فيه ولا يتقصى فيه الجواب، ويأتي على الشيء ويكون جائزا له كما يجوز له، لو قيل: أصلى الناس على عهد رسول الله ﷺ إلى بيت المقدس؟ أن يقول: نعم، وإن لم يقل ثم حولت القبلة.
قال: فإن قيل: فقد ذكر على عهد أبي بكر وصدر من خلافة عمر؟
قيل – والله أعلم-: وجوابه حين استفتي يخالف ذلك ما وصفت.
فإن قيل: فهل من دليل تقوم به الحجة في ترك أن تحسب الثلاث واحدة في كتاب أو سنة أو أمر أبين مما ذكرت؟
قيل: نعم، أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه قال: كان الرجل إذا طلق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها كان ذلك له، وإن طلقها ألف مرة، فعمد رجل إلى امرأة له فطلقها ثم أمهلها حتى إذا شارفت انقضاء عدتها ارتجعها ثم طلقها وقال: والله لا آويك .. ولا تخلين أبدا، فأنزل الله تعالى: ﴿ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَن يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾[البقرة٢٢٩]، فاستقبل الناس الطلاق جديدا من يومئذ، من كان منهم طلق أو لم يطلق.
وذكر بعض أهل التفسير هذا فلعل ابن عباس أجاب: أن الثلاث والواحدة سواء، وإذا جعل الله عدد الطلاق إلى الزوج وأن يطلق متى شاء، فسواء الثلاث والواحدة وأكثر من الثلاث في أن يقضي بطلاقه.
قال الشافعي: وحكم الله في الطلاق أنه مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. وقوله: ﴿فإن طلقها﴾ يعني: والله أعلم الثلاث ﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ فدل حكمه أن المرأة تحرم بعد الطلاق ثلاثا حتى تنكح زوجا غيره، وجعل حكمه بأن الطلاق إلى الأزواج يدل على أنه إذا حدث تحريم المرأة بطلاق ثلاث وجعل الطلاق إلى زوجها فطلقها ثلاثا مجموعة أو مفرقة حرمت عليه بعدهن حتى تنكح زوجا غيره كما كانوا مملكين عتق رقيقهم، فإن أعتق واحدا أو مائة في كلمة لزمه ذلك كما يلزمه كلها، جمع الكلام فيه أو فرقه، مثل قوله لنسوة له: أنتن طوالق، ووالله لا أقربكن، وأنتن علي كظهر أمي، وقوله: لفلان علي كذا، ولفلان علي كذا، ولفلان علي كذا، فلا يسقط عنه بجمع الكلام معنى من المعاني، جميعه كلام فيلزمه بجمع الكلام ما يلزمه بتفريقه.
فإن قال قائل: فهل من سنة تدل على هذا؟
قيل: نعم، حدثنا الربيع قال: أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا سفيان عن الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة: أنه سمعها تقول: «جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله، فقالت: إني كنت عند رفاعة، فطلقني فبت طلاقي، فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير وإن ما معه مثل هدبة الثوب، فتبسم رسول الله ﷺ وقال: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا، حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته قال: وأبو بكر عند النبي ﷺ وخالد بن سعيد بن العاص بالباب ينتظر أن يؤذن له، فنادى: يا أبا بكر، ألا تسمع ما تجهر به هذه عند رسول الله ﷺ».
قال الشافعي: فإن قيل: فقد يحتمل أن يكون رفاعة بت طلاقها في مرات. قلت: ظاهره في مرة واحدة (وبت) إنما هي ثلاث إذا احتملت ثلاثا، وقال رسول الله ﷺ: «تريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا، حتى يذوق عسيلتك» ولو كانت عائشة حسبت طلاقها بواحدة كان لها أن ترجع إلى رفاعة بلا زوج.
فإن قيل: أطلق أحد ثلاثا على عهد النبي ﷺ؟
قيل: نعم، عويمر العجلاني طلق امرأته ثلاثا قبل أن يخبره النبي أنها تحرم عليه باللعان فلما أعلم النبي نهاه.
وفاطمة بنت قيس تحكي للنبي ﷺ: أن زوجها بت طلاقها: تعني والله أعلم: أنه طلقها ثلاثا، وقال النبي ﷺ: «ليس لك عليه نفقة» لأنه -والله أعلم- لا رجعة له عليها، ولم أعلمه عاب طلاقها ثلاثا معا.

قال الشافعي: فلما كان حديث عائشة في رفاعة موافقا ظاهر القرآن وكان ثابتا – كان أولى الحديثين أن يؤخذ به، والله أعلم، وإن كان ليس بالبين فيه جدا.
قال الشافعي: ولو كان الحديث الآخر له مخالفا كان الحديث الآخر يكون ناسخا، والله أعلم، وإن كان ذلك ليس بالبين فيه جدا. 
وفي الجملة نقول أنَّ الذي وقع في هذه المسألة نظير ما وقع في مسألة المتعة سواء، أعني: قول جابر: أنها كانت تفعل في عهد النبي ﷺ وأبي بكر وصدر من خلافة عمر، قال: ثم نهانا عمر عنها فانتهينا، فالراجح في الموضعين تحريم المتعة وإيقاع الثلاث؛ للإجماع الذي انعقد في عهد عمر على ذلك، ولا يحفظ أن أحدا في عهد عمر خالفه في واحدة منهما، وقد دل إجماعهم على وجود ناسخ وإن كان خفي عن بعضهم قبل ذلك، حتى ظهر لجميعهم في عهد عمر، فالمخالف بعد هذا الإجماع منابذ له، والجمهور على عدم اعتبار من أحدث الاختلاف بعد الاتفاق. 
فإن قيل كيف يكون ــ طلاق الثلاث في المجلس الواحد ــ قولاً منكرا لزمت به الحرمة ويكون واقعاً؟ قال الطحاوي:” فَلَمَّا رَأَيْنَا الظِّهَارَ قَوْلًا مُنْكَرًا وَزُورًا  وَقَدْ لَزِمَتْ بِهِ حُرْمَةٌ ,كَانَ كَذَلِكَ الطَّلَاقُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ  هُوَ مُنْكَرٌ مِنَ الْقَوْلِ وَزُورٌ وَالْحُرْمَةُ بِهِ وَاجِبَةٌ، وَقَدْ رَأَيْنَا رَسُولَ اللهِ ﷺ لَمَّا سَأَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ طَلَاقِ عَبْدِ اللهِ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ أَمَرَهُ بِمُرَاجَعَتِهَا وَتَوَاتَرَتْ عَنْهُ بِذَلِكَ الْآثَارُ  وَقَدْ ذَكَرْتُهَا فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْمَرَ بِالْمُرَاجَعَةِ، مَنْ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ. فَلَمَّا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ قَدْ أَلْزَمَهُ الطَّلَاقَ فِي الْحَيْضِ وَهُوَ وَقْتٌ لَا يَحِلُّ إِيقَاعُ الطَّلَاقِ فِيهِ، كَانَ كَذَلِكَ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَأَوْقَعَ كُلًّا فِي وَقْتِ الطَّلَاقِ لَزِمَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ فَعَلَهُ عَلَى خِلَافِ مَا أُمِرَ بِهِ، فَهَذَا هُوَ النَّظَرُ فِي هَذَا الْبَابِ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، مَا لَوِ اكْتَفَيْنَا بِهِ كَانَ حُجَّةً قَاطِعَةً وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: فَلَمَّا كَانَ زَمَانُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ فِي الطَّلَاقِ أَنَاةٌ وَإِنَّهُ مَنْ تَعَجَّلَ أَنَاةَ اللهِ فِي الطَّلَاقِ أَلْزَمْنَاهُ إِيَّاهُ”.

سراج الطريق

نحن نزاعٌ من القبائل حققوا البراءة من هذه الجاهلية النكراء … نحن الغرباء الذين تقلدوا لواء الإصلاح … بقايا الحنفاء من يُصلحون إذا فسد الناس … نحن القلة المستضعفة … القلة التي تفر بدينها … القلة السالكة المستوحشة … الحاملون لجراح أمتهم … سراج الظلم في تيه الجاهلية … الأمل في عود الضياء … عِصابة المسلمين وعصارة الموحدين في زمن أقفر ما بين لبنتيها من المسلمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى